– الصحافة الإسرائيلية تُسلِّط الضوء على الديمقراطيات في إفريقيا، وتعد السنغال نموذجًا..
– وتتوجّس خيفةً من إمكانية سيطرة تنظيمي القاعدة وداعش على دول بالقارة، وبناء دولة على النسق الأفغاني في الصومال..
– وترصد إهدار مكتسبات الاتحاد الأوروبي جراء الانقلابات.
عكست مقالات الرأي المنشورة في الصحف الإسرائيلية خلال الفترة (7-19 سبتمبر 2023م)، لكُتَّاب وخبراء في الشأن الإفريقي، حالة الحذر والترقب بشأن الأوضاع المضطربة بالقارة وتداعياتها المحتملة، كما غلب عليها الجانب التحليلي؛ من أجل فهم مُسَبِّبات تردّي الأوضاع السياسية في القارة، وتحوُّل الانقلابات هناك إلى ظاهرة، ليقود التحليل إلى قواسم مشتركة وقواعد عامة، عنوانها الأبرز هو أن أي انقلاب جديد في إفريقيا سيكون مجرد نبأ روتيني لن يحمل اختلافًا عمَّا سلف. وفي المقابل عمدت إلى سبر غور العوامل التي أوجدت نماذج ديمقراطية بالقارة؛ نجح بعضها وفشل الآخر.
لم تغب المخاوف جراء سيطرة تنظيمات إرهابية بشكل محتمل على مقدّرات دول بالقارة عن ذهن الخبراء الإسرائيليين، الذين أدركوا من خلال الصورة الذهنية التي ترسَّخت على مر السنين، أن الأحداث في مناطق من إفريقيا ستُلقي بظلالها على إسرائيل، استنادًا إلى تجربة موجات اللاجئين الإريتريين كمثال، وسط تحذيرات من المُخرجات التي قد تُفرزها الأوضاع المضطربة في بلد مثل الصومال، هذا بخلاف مخاوف أخرى على صلة بموجهات هجرة عارمة إلى أوروبا، ناهيك عن ترسيخ أقدام مرتزقة “فاغنر” في الغرب الإفريقي، وخلق “حزام روسي” في تلك المنطقة، وكل ذلك يبدو كأنه يتعارض مع المصالح الإسرائيلية الاستراتيجية.
يرصد المقال الأول للكاتب الإسرائيلي دافيد بارون، وجهًا آخر لقارة إفريقيا؛ حيث العديد من الدول التي أسَّست أو أنها تعمل على بناء نظام ديمقراطي، بصرف النظر عن الصورة النمطية المعتادة التي حوَّلت مسألة الانقلابات في إفريقيا إلى روتين يمكن توقُّعه، في ظل عدم الاستقرار في منطقة جنوب الصحراء الكبرى.
ويسلط الضوء على بعض التقارير الصادرة عن مراكز بحثية أو منظمات دولية بشأن حالة الديمقراطية في تلك المنطقة، ليقف على العوامل التي يمكنها أن تسهم في استمرار الديمقراطيات في القارة، في وقت جاء التنافس على السلطة والتحولات المُعقَّدة من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، على رأس مسببات عدم الاستقرار. كما يلقي المقال الضوء على نموذج السنغال، بوصفه نموذجًا فريدًا، ويقتبس عن بعض الخبراء عددًا من النقاط الأساسية التي أفرزت في هذا البلد مواطنين ينظرون إلى الديمقراطية كميراث قديم وجزء لا يتجزأ من انتمائهم القومي.
ويركز المقال الثاني للكاتب دين شموئيل إلماس، على حالة التوجس من إمكانية سيطرة تنظيمي “داعش”، و”القاعدة” على دول إفريقية بعينها، بعدما تأزَّم الموقف السياسي في عديد من بلدان القارة، ويحذر من ظهور دول دينية، ولا سيما وأن إفريقيا بالأساس، حتى من دون انقلابات، عُدَّت بيئة خصبة للتنظيمات الإرهابية.
ويرصد المقال ما أسماه “الاقتصاد الأسود” في إفريقيا، الذي أسَّسته تلك التنظيمات، مستغلةً حالة الفقر وغياب الأُفق السياسي والانقلابات، داعيًا حكومة إسرائيل لليقظة في ظل تداعيات محتملة لصعود حركات وتنظيمات، مثل حركة الشباب الصومالية، وما يحمله الأمر من آثار ستطال حركة الملاحة البحرية في المنطقة، وبخاصة باتجاه مدينة إيلات، جنوبي البلاد.
ويضع المقال الثالث للكاتب نيتسان دافيد فوكس، انقلاب النيجر كنقطة تحوُّل في تاريخ انحسار النفوذ الأوروبي في غرب إفريقيا، وإهدار مكتسبات وجهود كبيرة بذلها الاتحاد الأوروبي منذ سنوات، وفي المقابل يخلق وضعًا جديدًا مكتظًّا بالمخاطر، تتصدّرها موجهات عارمة من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين، والإرهاب، هذا بخلاف تحوُّل إفريقيا جنوب الصحراء إلى أرض خصبة لمرتزقة “فاغنر”، وخلق ما أسماه “حزامًا روسيًّا” في تلك المنطقة.
ليست انقلابات وديكتاتوريات فحسب: هكذا تنجح الديمقراطيات في إفريقيا[[1]]
يظهر على الشاشة مجموعة من الضباط بالزي الرسمي، يجلس أحدهم أمام الميكروفون مُعلنًا خلع الرئيس الحالي. مؤسسات الدولة إمَّا أن تُحَلّ أو أن تصبح تحت الرقابة، ويتولى الجيش زمام السلطة في ضوء تردّي أداء الحكومة المدنية أو انتهاكها لإرادة الشعب.
بهذه المقدمة استهل الكاتب الإسرائيلي، دافيد بارون، مقالته بصحيفة “يسرائيل هايوم“، في 19 سبتمبر 2023م، راصدًا الصورة الذهنية التي ترسَّخت بشأن الانقلابات في إفريقيا؛ إذ أصبحت تلك هي طريقة البثّ التلفزيوني المعتادة للانقلابات في القارة، التي شهدت في السنوات الثلاث الأخيرة أحداثًا مماثلة في كلٍّ من: مالي وبوركينا فاسو، وفقط في الأسابيع القليلة الماضية في النيجر والجابون.
ويشير الكاتب إلى أن منطقة جنوب الصحراء في إفريقيا، عادت لتكتسب مرة أخرى صورة تلك القارة التي لا يوجد فيها أي شيء مستقر؛ فالشيء الوحيد المستقر هناك هو عدم الاستقرار ذاته، وإذا لم يكن هناك انقلابات، فعلى الأقل تبقى حاضرة في الأذهان؛ بسبب الديكتاتوريات، هذا الحضور تجسَّد على سبيل المثال في صورة اشتباكات اندلعت أخيرًا بين المهاجرين الإريتريين في إسرائيل (اشتباكات وقعت في تل أبيب بين مؤيدين ومعارضين للنظام الحاكم في أسمرة).
وفي ظل هذه الأوضاع -يواصل الكاتب- من السهل أن ننسى أن القارة لديها سلسلة من الديمقراطيات المستقرة، ووفقًا لأحدث تقرير لـ”فريدوم هاوس” الأمريكية، فإنه في عام 2022م، من بين 54 دولة في إفريقيا، لم يكن هناك سوى ست دول حرة: بوتسوانا، والرأس الأخضر، وغانا، وموريشيوس، وناميبيا، وكذلك ساو تومي وبرينسيبي. وهناك بلدان أخرى عديدة تسير على خُطى الديمقراطية، بما في ذلك: ساحل العاج وكينيا وليسوتو وملاوي ونيجيريا والسنغال وزامبيا.
وعمد الكاتب إلى تسليط الضوء على تقرير لمركز ((V-Dem، وهو معهد أبحاث مستقل، يقع مقره في قسم العلوم السياسية، جامعة غوتنبرغ، السويد، واقتبس عنه أنه في عام 2022م، كانت هناك ديمقراطية (ليبرالية) واحدة كاملة في إفريقيا، ألا وهي سيشيل، لكنَّ الديمقراطيات الانتخابية مثل: غانا وملاوي والسنغال وساو تومي وبرينسيبي تقترب من الاكتمال.
ووضع بين قوسين تعريفًا لـ”الديمقراطية الانتخابية”، والتي تكون الانتخابات فيها متعددة الأحزاب وحرة ونزيهة؛ ذات مستوى مناسب من الحق في التصويت وحرية التعبير، أمَّا “الديمقراطية الليبرالية” فتحافظ على شروط النظام الانتخابي، بالإضافة إلى القيود التشريعية والقانونية على الحكومة، إلى جانب المساواة أمام القانون وحماية الحريات المدنية.
وطرح بارون سؤالًا بشأن الأسباب التي يمكنها أن تسهم في استمرار الديمقراطيات في القارة، وحدد السبب الأول بأنه يكمن في “لامركزية السلطة، والمؤسسات الفاعلة”، مقتبسًا عن الدكتور جوزيف سيجل، رئيس قسم الأبحاث في معهد الدراسات الإفريقية بجامعة الدفاع في واشنطن، القول التالي: “كنت سأتحفّظ على مقولة أن هناك خصائص عالمية تسهم في تحسين الحكم الديمقراطي في هذه البلدان، إنهم جميعًا يمرون بفترات صعود وهبوط، والمسار الديمقراطي ليس خطيًّا. ومع ذلك، هناك سمتان للحكم تستحقان الاهتمام، أولهما أنه لم يكن لدى أغلب هذه البلدان (باستثناء غانا ونيجيريا) تاريخ من الحكم العسكري، لقد تمكنوا من تجنُّب التنافس على السلطة والتحولات المعقَّدة من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، وهو ما كان من نصيب 35 دولة أخرى في القارة”.
ويواصل الكاتب الاقتباس عن الدكتور سيجل، بأن “الديمقراطيات المتَّسقة لديها أيضًا التزام كبير نسبيًّا بسيادة القانون، وأنها مكَّنت وعزَّزت الانتقال إلى النظام الدستوري والضوابط والتوازنات المتأصلة في النظام الديمقراطي. ونتيجةً لذلك، كان من السهل بناء ترتيبات لامركزية السلطة، وعزَّزت هذه الترتيبات التسوية بين المصالح المتنافسة. كما أن هذه الدول غالبًا ما تجنَّبت القادة الذين حاولوا تمديد فترات حكمهم، وفي الحالات التي حاول فيها القادة اختبار تجاوز حدود ولايتهم، واجهوا احتجاجات ومقاومة قوية من المواطنين. وفي الوقت ذاته، ظهرت مؤسسات خاضعة للمساءلة، وعزَّزت هذه الدول أيضًا القيم الديمقراطية بين مواطنيها. وبفضل هذه الخصائص، تمتعت الدول المذكورة أيضًا بنموٍّ اقتصادي واجتماعي مستقر مقارنة بالدول الأخرى في القارة”.
أمّا مديرة برنامج الدراسات الإفريقية في جامعة تل أبيب، الدكتورة إيريت باك، فقد حدَّدت من جانبها، بناءً على ما أورده الكاتب، مجموعة من الدول الديمقراطية في جنوب القارة، وقالت بحسب الاقتباس: “ربما يظهر هذا التركيز مدى تأثير جنوب إفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، لقد أظهرت جنوب إفريقيا أن الديمقراطية يمكن أن تنجح”.
قصة السنغال:
ويبرز الكاتب الإسرائيلي في مقالته تجربة جمهورية السنغال، بوصفها حالة استثنائية، وينقل عن البروفيسور روت جينياو، الأستاذ في قسم التاريخ العام في جامعة بن غوريون، والتي تشمل دائرة اهتماماتها البحثية الاستعمار الفرنسي لغرب إفريقيا، أن الأمر على صلة بتقليد ثقافي وسياسي طويل، وأنه خلال الاندفاع الثوري لـ”ربيع الأمم” في عام 1848م، منحت فرنسا الجنسية لسكان مستعمراتها الأربع القديمة في أراضي السنغال.
ونقل عنها القول: “بات بمقدورهم التصويت لصالح المجلس المحلي في داكار، بل وحتى إرسال مندوب إلى الجمعية الوطنية في باريس. عندما تغزو فرنسا السنغال بأكملها، سيكون هناك ملايين بلا حقوق، ولكن مع ذلك سيحافظون على النخبة التي تفهم ماهية الديمقراطية وما هي الصحافة الحرة، وهذه أشياء لا يتمتع بها أي بلد آخر في إفريقيا”.
ورأت أيضًا أن ذلك التاريخ ترك أثرًا دائمًا؛ لأن الديمقراطية شيء يجب تعلمه، وأن الديمقراطية أصبحت جزءًا من القومية في السنغال، وجزءًا من الفخر الوطني هناك، فالناس أصبحوا على دراية بأهمية صوتهم، وكيف أن الحكومة لا تستطع فِعْل ما تريد، وهو الأمر الذي حدث حينما حاول الرئيس الحالي ماكي سال تمديد فترة ولايته.
ومن السمات الأخرى التي تُعزز الديمقراطية في السنغال: فصل الدين عن الدولة، وهو ما جاء في الدستور الفرنسي، حسبما ورد في الاقتباس عن البروفيسور جينياو، والتي أشارت أيضًا إلى أن “الإسلام في السنغال يسهم بدوره في هذه النزعة؛ فالطرق الصوفية، التي تؤكد على الارتباط الشخصي بالله، تتمتع بقوة سياسية كبيرة وتعارض بشدة الأصولية الإسلامية، وعندما قيل عن أحد المرشحين الرئاسيين، وهو عثمان سونكو، إنه ذو نزعة أصولية، سارع إلى نفي ذلك بشدة، أمَّا السنغاليون، فإن إسلامهم معتدل”؛ كما تقول.
الإحباط يُشجع الانقلابات:
بالعودة إلى مؤشر (V-Dem)؛ نجد أن إفريقيا تتصدر عدد البلدان التي تمر بعملية التحول الديمقراطي بشكل نسبي، فمن بين 14 دولة فقط في العالم تسير على هذا المسار، هناك خمس دول في إفريقيا، لكن على الرغم من ذلك، تسير 12 دولة إفريقية في الاتجاه المعاكس الذي يجتاح 42 دولة في العالم.
وتقول باك: “إن إفريقيا مختلفة من حيث إن عمليات التحول الديمقراطي هناك بدأت متأخرة نسبيًّا، وهذا يؤثر أيضًا على تصورهم للموضوع. لقد أصبحت جنوب إفريقيا بالفعل نموذجًا يُحتذى به، ولكن منذ إلغاء الفصل العنصري، أصبح يحكمها نفس الحزب، ويضع الفساد علامات استفهام أمام العديد من إنجازات الديمقراطية”.
وتوضح الخبيرة الإسرائيلية أن نيجيريا بها انتخابات حرة تجري كل أربع سنوات، ولكن هناك أيضًا مشكلات أمنية خطيرة بسبب المنظمات الإرهابية في الشمال، وبسبب استشراء الجريمة في مدينة لاغوس. لذلك يتساءل الناس عمَّا إذا كانت الديمقراطية تلبّي توقُّعاتهم، وفي كثير من الأحيان يكون هناك دعم للانقلابات العسكرية إذا لم تحقّق الديمقراطيات هدفها.
وفي الوقت ذاته، فإن الحكم العسكري لا يؤدّي إلى تحسن الأوضاع، والحديث هنا للدكتور سيجل، الذي يرى أنه لا يتعين البحث عن دوافع الإيثار لدى المجالس العسكرية التي استولت على السلطة في سبع دول إفريقية (حتى الآن) منذ عام 2020م، ففي كل حالة، كان الأمر بمثابة استيلاء على السلطة من أجل الاستيلاء على السلطة، وفي بعض الحالات، مثل: السودان وتشاد، كانت الانقلابات مُصمَّمَة لمواصلة السيطرة، أمًّا في حالات أخرى، فقد كان الهدف منها ترسيخ السلطة العسكرية بعد فترة قصيرة من التحرك نحو حكومة مدنية وديمقراطية، كما هو الحال في دول هي: مالي وبوركينا فاسو وغينيا والنيجر.
ويتابع أنه في هذه البلدان الأربعة، كانت المؤشرات الاقتصادية والتنموية أكثر قوة بشكل ملحوظ خلال الإدارة الديمقراطية، لذلك، عندما تدّعي المجالس العسكرية أنه لم يكن لديها خيار آخر سوى التدخل، فهذه ادعاءات متحيزة تمامًا.
وختم بأنه حتى من الناحية الأمنية؛ فإن المجالس العسكرية لا تفي بوعودها، وأنه منذ الانقلابَين العسكريين في مالي وبوركينا فاسو، تضاعف عدد حوادث العنف التي ارتكبها المتطرفون، وبلغ عدد حوادث القتل ثلاثة أضعاف.
إن هذه الانقلابات في المجمل ليست سوى استيلاء على السلطة مِن قِبَل الوحدات الخاصة والحرس الرئاسي، لماذا؟ لأنهم لا يستطيعون فِعْل أي شيء أكثر من ذلك؛ على حد قوله.
هل القاعدة وداعش في طريقهما للسيطرة على إفريقيا؟[[2]]
يطرح الكاتب الإسرائيلي، دين شموئيل إلماس، في مقالته بموقع “جلوبس” بتاريخ 14 سبتمبر 2023م، سؤالًا بشأن إذا ما كان تنظيما “القاعدة” و”داعش” في طريقهما للسيطرة على إفريقيا، راصدًا الاضطرابات التي شهدتها القارة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ومشيرًا إلى أن ما لا يقل عن ثمانية انقلابات ناجحة شهدتها دول إفريقية، آخرها الانقلاب في النيجر ومن بعدها الجابون في الشهرين الماضيين.
وقد سعت إسرائيل للحفاظ على علاقات دبلوماسية على مستويات مختلفة مع القيادات الجديدة في بعض الحالات، كما حدث على سبيل المثال، في الجابون، التي اشترت إسرائيل منها النفط بكميات أكبر، بناءً على ما يؤكده الكاتب، والذي أشار إلى أن الطاقة ليست بالضرورة هي القضية الأساسية التي تثير القلق في إسرائيل بشكل خاص وفي العالم بشكل عام بعد هذه الانقلابات.
إن إفريقيا، حتى من دون انقلابات، تُشكِّل أرضًا خصبة للمنظمات الإرهابية، هكذا يشير إلماس، مضيفًا أنه حين تقع مثل هذه الأحداث فإنها تؤثر على مستويين: الأول هو أن العديد من الانقلابات تعد بمثابة قوة دافعة لكيانات مختلفة في بلدان أخرى، والثاني هو أن الانقلاب يُضعِف بالضرورة الحكومة المركزية في البلاد، وقد يخلق فراغًا تتسلل من خلاله التنظيمات الإرهابية.
التنظيمات تستغل الفقر:
ويضيف الكاتب: كما هو معروف أُطيح برئيس النيجر محمد بازوم، في شهر يوليو، وسارع المجلس العسكري المسؤول عن الانقلاب إلى التنصل من الغرب، بعد أن كان النظام السابق قريبًا من الدول الغربية، وكان يزود الاتحاد الأوروبي بحوالي 25% من استهلاكه من اليورانيوم، مُعبِّرًا عن قناعته بأن هذا الانقلاب قد دبَّرته روسيا؛ بهدف الإضرار بمصالح الدول الغربية التي ساعدت الأنظمة الصديقة في المنطقة على محاربة تنظيمي “داعش” و”القاعدة”.
وتابع أن نفس التنظيمات تعمل على نطاق واسع في القارة منذ عقدين من الزمن، حتى دون أن تكون لها صلة بانقلاب أو بآخر، وبيَّن أن نشاطات تلك التنظيمات في أرقى صورها تُباشَر تحت عباءة نشر الدعوة، وتكون في أكثر صورها عدوانية، عندما يسيطرون على مناطق بعينها.
وذهب إلماس إلى أن العديد من المناطق في إفريقيا تعاني عدم توفر فرص عمل مستقرة، لذلك فإن البديل هو الاقتصاد الأسود أو الهجرة أو الانضمام إلى التنظيمات الإرهابية، واستند في هذا التقدير إلى خلاصة رأي الدكتور مايكل باراك، الباحث الأول في المعهد الدولي لسياسات مكافحة الإرهاب، التابع لجامعة رايخمان (جامعة خاصة تقع في مدينة هرتزيليا)، والذي أخبره أن منطقة الساحل تعد إشكالية للغاية وحقلًا للنشاطات الميدانية للتنظيمات الإرهابية منذ عقدين من الزمن.
واقتبس الكاتب عن باراك أن تنظيم القاعدة “أسس منظومة للاقتصاد الأسود، ونجح في بناء تحالفات مع القبائل المحلية، ليس هذا فحسب بل أنشأ شبكة لتهريب الماس والأسلحة. وفي الوقت نفسه، استغلت التنظيمات الإرهابية، ولا تزال، الفقر المنتشر في القارة وملايين اللاجئين”.
وفي منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، مركز الانقلابات في السنوات الأخيرة، يتنبأ الباحث في المعهد الدولي لسياسات مكافحة الإرهاب، أن ينخفض النمو الاقتصادي من 3,6% في عام 2022م إلى 3,1% بحلول نهاية العام الجاري، وأن الارتباط بين الفقر وعدد اللاجئين وانعدام الآفاق الاقتصادية سيسمح للتنظيمات الإرهابية بتجنيد المزيد والمزيد من المقاتلين في صفوفها. كما يستشرف أن عدم تحسن الوضع الاقتصادي، وغياب استقرار السلطة، ونزعة الانقلابات التي تقف في ذروتها حاليًّا، كل ذلك يعني أن بناء دول دينية في إفريقيا على نمط تنظيمي القاعدة وداعش مجرد مسألة وقت.
على إسرائيل أيضًا أن تبقى يَقِظَة:
ومن وجهة نظر الكاتب الإسرائيلي؛ فإن الساحة التي قد تكون الأولى في المنعطف الجماعات الدينية المسلحة لموجة الانقلابات في إفريقيا هي الصومال، التي تعاني كثيرًا بسبب تنظيم الشباب المحسوب على تنظيم القاعدة. وقد نفَّذ هذا التنظيم نفسه ما لا يقل عن 90 هجومًا مسلحًا في المنطقة الحدودية الصومالية مع كينيا، في الفترة من يونيو إلى أغسطس 2023م.
وقدَّر أن هذا الوضع ينبغي أن يُزعِج إسرائيل؛ لأن الصومال تقع في خليج عدن بجوار مدخل البحر الأحمر، وأن الدولة الدينية التي سيتم إنشاؤها هناك، يمكن أن تؤثر على حركة الملاحة البحرية في المنطقة، وبخاصة باتجاه إيلات. وفي دولة معيارية، يحل محل القوات الأجنبية جيش قوي، لكنَّ الوضع ليس كذلك في الصومال، لأسباب منها الفساد الاستثنائي على المستوى الدولي؛ إذ وضع مؤشر مدركات الفساد لعام 2022م، الذي فحص 180 دولة في العالم، الصومال في المركز الأخير.
ويعود الكاتب للاقتباس عن الدكتور باراك أن “الصومال تعاني من الفساد على نطاق متطرف وتدير حركة الشباب إمبراطورية في جميع أنحاء البلاد، ويتجلى جزء من هذه الإمبراطورية في إقامة حواجز التفتيش حيث يتم تحصيل رسوم العبور”.
في المقابل، انخفض معدل النمو في الصومال من 3,3% في 2021م إلى 2,4% في 2022م، فيما يؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصومال، والذي يبلغ نحو 462 دولارًا؛ وفقًا للبنك الدولي، ما يشير إلى أنها من أفقر الدول في إفريقيا.
وفيما يتعلق بالتفاوت بين الوضع الاقتصادي للشعب الصومالي وبين حركة الشباب؛ يضيف الدكتور باراك أنه من خلال الأنشطة الإجرامية للتنظيم الإرهابي، الذي يعد من أقوى فروع تنظيم القاعدة في إفريقيا، فقد نجحت حركة الشباب في ربح 100 مليون دولار، وختم قائلًا: “هناك نقطة مضيئة، فالمصريون والسعوديون والإماراتيون يساعدون الحكومات في إفريقيا ويمنحونها الأدوات اللازمة لمحاربة الإرهاب”.
روسيا التي في جنوب الصحراء: انقلاب النيجر يُعد ضربة أخرى للاتحاد الأوروبي[[3]]
ابتلعت الأخبار القادمة من الخارج تلك الخاصة بالانقلاب في النيجر، وربما نسينا بالفعل أن انقلابًا وقع في الدولة الإفريقية، وهذا ليس مفاجئًا، فالنيجر بلد فقير وغير مستقر على هامش النظام العالمي، يعاني البطالة والفساد والإرهاب، إنها ليست الدولة التي يودّ الكثيرون العيش فيها، ولا حتى زيارتها، فلماذا إذن ينبغي أن نكون مهتمين؟
بهذه المقدمة استهل الكاتب الإسرائيلي، نيتسان دافيد فوكس، مقالته بصحيفة “ماكور ريشون” في 7 سبتمبر 2023م، والتي أشار خلالها إلى أن النيجر، البلد الضعيف اقتصاديًّا وسياسيًّا، ليست بالضرورة بلدًا بلا أهمية، معللًا ذلك بأن النيجر ودول أخرى في منطقة الساحل، مثل: تشاد ومالي وبوركينا فاسو وموريتانيا، تعد منطقة رئيسة تربط بين شمال إفريقيا وأوروبا وغرب إفريقيا.
وعبر هذه المنطقة، لا يمر المهاجرون غير الشرعيين فحسب، بل تمر أيضًا المخدرات من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا، كما تنشط في منطقة الساحل عدة تنظيمات إرهابية، بعضها فروع محلية لتنظيمي “القاعدة” و”داعش”، تشن الهجمات على القوات المحلية والغربية، وتهدد استقرار شمال إفريقيا.
ويحاول الاتحاد الأوروبي منذ عام 2011م، تحقيق الاستقرار في دول الساحل بسبب أهميتها الاستراتيجية، ويدرك أن زعزعة استقرار هذه الدول ستضر به، في صورة تزايد موجات الهجرة والشبكات الإرهابية التي ستنتشر إلى أوروبا. كما أن للأمريكيين وجودًا عسكريًّا في المنطقة، وتعمل أجهزتهم الأمنية ضد التنظيمات الإرهابية هناك، فيما احتفظت فرنسا بقوات عسكرية في أغلب دول المنطقة، لكنها اضطرت إلى إخلاء قواتها من الغالبية العظمة منها.
استثنائية النيجر:
ويذهب الكاتب إلى أن النيجر حتى وقت قريب كانت تعد نقطة مضيئة استثنائية بالنسبة للغرب، فقد وقع انقلابان عسكريان في مالي المجاورة عامي 2020م و2021م، وشهدت بوركينا فاسو انقلابًا في عام 2022م، وفي كليهما طالب المجلس العسكري بانسحاب القوات الفرنسية وغيرها من القوات الأجنبية.
وبينما شغل الفراغ الذي خلفته القوات الفرنسية في مالي مرتزقة روس من قوة فاغنر لـ “محاربة العناصر الإرهابية”، لم ينشط مرتزقة فاغنر بعد في بوركينا فاسو، لكنَّ المجلس العسكري أعلن بالفعل أن روسيا “حليف استراتيجي”؛ يقول الكاتب.
حقيقةً لقد اضطرت فرنسا إلى تركيز قواتها في منطقة الساحل في النيجر، واستثمرت باريس وبروكسل الملايين في تدريب وتجهيز الجيش، كجزء من محاولة لتعزيز الحكومة. كما كانت النيجر شريكًا مهمًّا لأوروبا في منع الهجرة غير الشرعية، وتتعاون معها منذ عام 2015م؛ لمنع حركة المهاجرين عبر حدودها، ويمتلك الأمريكيون مطارًا شمالي البلاد، ومن هناك يطلقون طائرات من دون طيار ضد أهداف في المنطقة.
ويخشى الكاتب أن الانقلاب الذي اندلع في النيجر في يوليو يهدد كل هذه المكتسبات، وبالقياس على السوابق في مالي وبوركينا فاسو، ثمة مخاوف من أن يطالب المجلس العسكري بانسحاب جميع القوات الغربية من أراضيه، وبدلاً من ذلك، يمكنه استدعاء مرتزقة “فاغنر”، الأمر الذي من شأنه أن يمنح المنظمة وجودًا شبه مستمر من جمهورية إفريقيا الوسطى إلى مالي، أي خلق “حزام روسي” في إفريقيا جنوب الصحراء.
وبحسب مقال فوكس (الذي لم يتطرق إلى التطورات في الجابون)، يزيد الانقلاب في النيجر من خطر وقوع المزيد من الانقلابات في غرب إفريقيا، وبعد مالي وبوركينا فاسو وغامبيا (حدث انقلاب هناك أيضًا عام 2022م)، ويقدر أن ثمة احتمال أن يصبح الانقلاب في النيجر جزءًا من موجة شاملة، فعامل القرب الجغرافي ليس من قبيل الصدفة؛ إذ ينظر القادة في البلدان المجاورة إلى ما يحدث عبر الحدود، ويتساءلون عمَّا إذا كان من الممكن أن يحدث لهم هذا أيضًا، لماذا لا يحاولون أيضًا القيام بانقلاب خاص بهم؟
وختم فوكس بأن الانقلابات العسكرية، لا ريب، تعد أخبارًا سيئة بالنسبة للنمو الاقتصادي والاستقرار، وتخلق حالة من عدم اليقين، وتُلحق أضرارًا بالبنية التحتية، هذا إضافة إلى فساد المجلس العسكري الجديد؛ مشيرًا إلى أن بلدان غرب إفريقيا لا تزال غير مستقرة، وأن موجة الانقلابات لن تؤدي سوى إلى تعميق مشكلاتها وفرض تهديد على أوروبا في صورة موجة جديدة من المهاجرين، وحزام إرهاب ليس ببعيد عن حدودها.
الهوامش
[1]. دافيد بارون، “ليست انقلابات وديكتاتوريات فحسب: هكذا تنجح الديمقراطيات في إفريقيا”، صحيفة يسرائيل هايوم (بالعبرية)، 19 سبتمبر 2023م، على الرابط: https://www.israelhayom.co.il/news/world-news/article/14624271
والمقال ذاته في النسخة الرقمية للصحيفة المطبوعة، تحت العنوان المختصر: “الديمقراطية على الطريقة الإفريقية”، على الرابط:
https://digital-edition.israelhayom.co.il/israel-hayom/20230920/page/8
.[2] دين شموئيل إلماس، “هل القاعدة وداعش بصدد السيطرة على إفريقيا؟”، موقع جلوبس (بالعبرية)، 14 سبتمبر 2023م، على الرابط:
https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001457730&fbclid=IwAR07HB5k1uacqjB-gO8VqdThvx-9JB-HD_cATuObYJviiSIRfUMS_xg9QX8
[3]. نيتسان دافيد فوكس، “روسيا التي في جنوب الصحراء: الانقلاب في النيجر يشكل ضربة أخرى للاتحاد الأوروبي”، صحيفة ماكور ريشون (بالعبرية)، 7 سبتمبر 2023م، على الرابط: https://www.makorrishon.co.il/magazine/dyukan/661921/