كتبه: ربيع أبو زامل
مقدمة:
تمخَّض عن التغير في بنية النظام السياسي والحروب الأهلية في السودان وإثيوبيا منذ عام 2018م، إضعافًا متفاوتًا في السلطة المركزية وإدارة الحكم في البلدين، ما تسبَّب في إرباك الكثير من التفاهمات التي توصَّلا إليها في العديد من القضايا.
تسعى هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على العلاقات السودانية الإثيوبية خلال ولاية رئيس الوزراء آبي أحمد علي، مع التركيز على ملفَّي الحدود والمياه، دون التطرُّق إلى أبعاد وأزمات أخرى؛ كاللاجئين في كلا البلدين، والصراع الإقليمي والدولي على منطقة القرن الإفريقي، وأبعاده الأمنية والجيواستراتيجية المختلفة.
يبدأ الإطار الزمني لهذه الورقة من مارس 2018م؛ وهو العام الذي شهد تحولاً في إدارة الحكم بإثيوبيا، وأهمية ذلك تكمن في أن دور آبي أحمد ساهم إيجابًا وسلبًا في عدد من الملفات المشتركة، منها -على سبيل المثال- دوره في الوساطة بالسودان بين المكونين المدني والعسكري/ وبين القوات المسلحة والدعم السريع، إضافةً إلى دوره في إدارة ملف الحدود، ومفاوضات سد النهضة التي ضمت إلى جانب بلاده السودان مصر.
وعلى الجانب السوداني تسبَّبت التحولات السياسية في تضارب العديد من المواقف الرسمية في الملفات المذكورة في ضوء عدم الاستقرار السياسي والمجتمعي وانقسام الإدارة الانتقالية على نفسها.
إشكالية الورقة
معرفة أثر التحولات السياسية في السودان وإثيوبيا على العلاقات الثنائية منذ عام 2018م.
وينبثق عن ذلك مجموعة تساؤلات فرعية الأخرى:
– ما طبيعة التحولات السياسية في السودان وإثيوبيا؟
– ما الأدوار التي قامت به حكومتا البلدين في إطار التأثير والتأثر والتوظيف؟
– ما أبرز الملفات الثنائية؟ وكيفية إدارتها؟
– ما السيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقات الثنائية؟
المنهجية:
تعتمد الورقة على اقتراب “المصلحة الوطنية” باعتباره يوفّر أداةً لتوقُّع سلوك الدول، فضلاً عن صلاحيته كإطار للمقارنة بين أكثر من دولة في موقف دولي واحد، سواء كانت هذه الدول متحالفة أو متصارعة، وهو ما يساهم في فهم العلاقات السودانية الإثيوبية، وبناء سيناريوهات محتملة لمستقبلها.
ومع ذلك، إذا كانت المصلحة الوطنية هي المحدد الرئيس للسياسات الخارجية للدول في مختلف المراحل التاريخية؛ إلا أنها لم تكن كذلك في فترات متفاوتة ومتعاقبة بالنسبة للعلاقات السودانية الإثيوبية، والتي غلبت عليها دوافع واهتمامات النُّظم الحاكمة في البلدين بنظرة ضيقة دون المصالح الوطنية، وهو ما يفسّر أسباب تغيُّر التفاعلات السياسية من نظام إلى آخر، ومن قضية لأخرى.
وتُصنّف أدبيات مستويات المصلحة الوطنية إلى:
1- مصالح مصيرية: وتتعلق بوجود الدولة من عدمه؛ بمعنى أن بقاء الدولة مرهون بتحقق هذه المصلحة. وقد يرتبط هذا المستوى في الورقة بمياه نهر النيل واستمرار تدفقها من إثيوبيا باعتبارها رافدًا رئيسًا للنيل الأزرق بذات الكمية إلى الدولة السودانية، وأيضًا المعارك التي يخوضها الجيش مع فصيل الدعم السريع الساعي إلى الإطاحة بالقيادة المسلحة.
2- المصلحة الحيوية: وهو مستوى يتعلق باحتمالية تعرُّض الدول لأضرار بالغة الخطورة؛ إذا لم يتم استخدام وسائل قوية بما في ذلك القوة العسكرية خلال فترة زمنية قصيرة للدفاع عن هذه المصلحة.
ويرتبط هذا المستوى في هذه الورقة بالمناوشات العسكرية السودانية الإثيوبية على الحدود بين البلدين، وكذا تحرك الجيش الإثيوبي أواخر 2020م ضد التمرد القبلي في إقليم تيجراي، وعلى الجانب الآخر تحرك الجيش السوداني للإطاحة بحكم الرئيس عمر البشير إثر الاحتجاجات الشعبية المناوئة له عام 2019م خشية سقوط الدولة، وما تتبع ذلك من انتشار للجيش في العديد من المناطق التي لا يزال بعضها يشهد تمردًا قبليًّا، خصوصًا في مناطق دارفور وشرق السودان.
3- مصالح عظمى: وهي تتطلب القيام بأعمال محددة لدفع ضرر معين من المحتمل أن تتعرَّض له الدولة، كتهديد دولي بقطع صادرات الدولة ووقف الاستيراد منها أو وقف المساعدات أو فرض عقوبات، وهذا يتطلب من الدولة ضرورة التحرك لحفظ مصالحها للحفاظ عليها وإعادة الأمور لطبيعتها.
ومن الأمثلة على ذلك في هذه الورقة: تحرك الدولة السودانية بعد الإطاحة بالبشير لرفعها من العقوبات الدولية وعدم إدراجها على قوائم الإرهاب، وهو ما تم لاحقًا. وفي إثيوبيا واجهت حكومة آبي أحمد تهديدات بفرض عقوبات على إثر أعمال العنف ضد مدنيين في إقليمي تيجراي والأورومو.
4- مصالح فرعية: وفي هذه الحالة من المحتمل أن يلحق بالدولة أذى ضئيل في بعض المصالح الفرعية/ الثانوية.
المحور الأول
تحولات وطبيعة نظم الحكم
يتناول هذا المحور التحولات السياسية في السودان، ونظيرتها في إثيوبيا، والعلاقات المتأرجحة بين البلدين منذ 2018م إلى 2023م.
يمكن القول: إن العلاقات الثنائية خلال حكم الرئيس السوداني السابق عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ميليس زيناوي وسلفه ديسالين، اتسمت بكونها إيجابية رغم التوجهات المختلفة للطرفين، وفي منطقة تمتاز بعدم الاستقرار. بيد أنه مع وصول آبي أحمد إلى السلطة عام 2018م ووصول حكومة مدنية عسكرية مشتركة لإدارة المرحلة الانتقالية في السودان بعد الإطاحة بالبشير في 2019م، أصبحت العلاقات غير واضحة المعالم([1]).
التحول في السودان:
تمثلت أولويات السياسة الخارجية لنظام البشير في تعزيز القدرة على البقاء في الحكم على حساب المصالح الوطنية؛ الأمر الذي أدَّى في النهاية إلى وقوع السودان في عزلة دولية فَرضتها العقوبات الأمريكية؛ بدعوى دعم الخرطوم للإرهاب، فضلاً عن تضييق الخناق على حركة البشير خارجيًّا، بسبب الاتهامات التي وجَّهتها إليه المحكمة الجنائية الدولية؛ بدعوى تورُّط نظامه في انتهاكات جسيمة أثناء الصراع في إقليم دارفور. وهذا الوضع أورث مؤسسات الحكم الانتقالي في السودان تركة ثقيلة من العلاقات الخارجية المتوترة([2]).
وفي ديسمبر 2018م اندلعت احتجاجات شعبية في عددٍ من المدن السودانية؛ على خلفية ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتدهور الأوضاع الأمنية في عدد من المدن والأقاليم بما فيها العاصمة الخرطوم([3]).
وفي 11 أبريل 2019م، أعلن الجيش خلع البشير، وبدء مرحلة انتقالية لمدة عامين تنتهي بإقامة انتخابات لنقل السلطة([4]) -وهو ما لم يشهده السودان بعد-، وبعد أشهر من الفوضى تم التوصل في 17 أغسطس 2019م لاتفاق تقاسم السلطة في الفترة الانتقالية، بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف المعارضة المدنية المعروف باسم “قوى إعلان الحرية والتغيير”، وفق الوثيقة الدستورية، التي ألغت العمل بدستور البلاد الانتقالي لسنة 2005م ودساتير الولايات، وأقرت مدة الفترة الانتقالية تسعة وثلاثين شهرًا ميلاديًّا تسري من تاريخ التوقيع عليها، على أن يجري خلالها “تفكيك بنية التمكين لنظام الثلاثين من يونيو 1989م (نظام البشير) وبناء دولة القانون والمؤسسات”.
أسفر الاتفاق عن إنشاء مجلس انتقالي مُؤلَّف من ستة مدنيين وخمسة قادة عسكريين يتناوبون على قيادة المجلس خلال الفترة الانتقالية، على أن يتولى الجيش إدارة المجلس الانتقالي لفترة 21 شهرًا، فيما يديره “قوى إعلان الحرية والتغيير” خلال الأشهر الثمانية عشر التالية، ويسمح الاتفاق للقوى الأخيرة بالسيطرة على الحكومة الانتقالية باستثناء وزارتي الداخلية والدفاع، فيما سيحظى التحالف بأغلبية الثلثين في البرلمان، إضافةً إلى الحق في تعيين عالم الاقتصاد عبد الله حمدوك أول رئيس وزراء مدني منذ تولي البشير الحكم عام 1989م، وتتمثل أبرز الاختصاصات والسلطات التي يمارسها مجلس السيادة في إعلان الحرب، وإعلان حالة الطوارئ بطلب من مجلس الوزراء، والتوقيع على الاتفاقيات الدولية والإقليمية، ورعاية عملية السلام مع الحركات المسلحة([5]).
يمكن القول: إن الثورة السودانية أعادت الاعتبار لمقاربات “أفرقة علم السياسة” التي تقر قدرة القارة على التخطيط لبناء مستقبلها بعيدًا عن الأنماط والقوالب المستوردة والمفروضة في الخارج، فكان الاشتراك في عضوية “مجلس السيادة” الذي نصت عليه الوثيقة الدستورية بين المكونين المدني والعسكري بمثابة حل واقعي لتحقيق الأمن والاستقرار([6])؛ وذلك في إطار صعوبة إبعاد العسكريين عن الحكم بالسودان، بما قد يُعقّد عملية التحول الديمقراطي ووقوع انقلابات عسكرية جديدة([7]).
ما يُعزّز هذه المخاوف، الإجراء الذي اتخذه الجيش السوداني في 25 أكتوبر 2021م، حين اعتقل رئيس الوزراء حمدوك، وعددًا من أعضاء مجلس السيادة الانتقالي من المكون المدني وعددًا من وزراء الحكومة الانتقالية(([8]؛ وهو الإجراء الذي رفضته منظمات دولية وعواصم غربية، وتسبب في اندلاع تظاهرات احتجاجية تواصلت([9]) حتى بعد الإعلان عن التوقيع على اتفاق سياسي بين رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء حمدوك([10])؛ نص على إلغاء القرار الخاص بإعفاء حمدوك من مهامه، في خطوة هدَّأت الأوضاع المضطربة مؤقتًا، قبل أن يعلن حمدوك في بيان مصور مطلع يناير 2022م استقالته من منصبه([11]).
ومع تجمد العملية السياسية لأكثر من عام، بعد فضّ الشراكة بين المكونين المدني والعسكري بسبب قرارات أكتوبر 2021م، جرت مياه كثيرة في النهر؛ إذ تغيرت تحالفات سياسية وانقلب تموضع المكون العسكري أكثر من مرة، مع تدخلات قوى إقليمية ودولية بمشروعات للتوافق السياسي، وهو ما مهَّد الطريق لتوقيع اتفاق إطاري بين المكون العسكري وعدد من القوى السياسية المنضوية تحت فصيل قُوى الحرية والتغيير في الخامس من ديسمبر 2022م، حمل اسم “الاتفاق السياسي الإطاري”، نصَّ على عدد من المبادئ العامة؛ أهمها: إقامة سلطة مدنية بالكامل دون مشاركة القوات النظامية([12]).
ويُعد الاتفاق الإطاري الثالث من نوعه منذ بداية المرحلة الانتقالية في أبريل 2019م بعد الوثيقة الدستورية واتفاق سلام جوبا، بما يكرّس المشكلة التي تعاني منها المرحلة الانتقالية في السودان من وجود فائض في الاتفاقات والوثائق الناتجة عنها، مقابل عجز حادّ في التنفيذ وإحراز تقدُّم ملموس على أرض الواقع([13]).
وفي تطوُّر صادم للمرحلة الانتقالية، شهد السودان منذ أبريل 2023م، اشتباكات عسكرية بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، أدَّت إلى مقتل ونزوح وتشريد آلاف السكان، في وقتٍ لم تفلح فيه عديد من المبادرات الدولية كان لإثيوبيا نصيب منها في الخروج من هذا الوضع.
بناء على ما سبق، ثمة تهديدات إزاء افتعال الأزمات خلال الفترة الانتقالية بالسودان، قد تزيد من عمرها الزمني بما يساهم في تعزيز الانقسام الشعبي، وكذا زيادة تهديد مكانة القيادة العسكرية والجيش بين أفراد الشعب عمومًا مهما كانت نتائج الحرب الأهلية الراهنة، وفقًا لتجارب إفريقية وسودانية سابقة التي تركت آثارًا سلبية عادة على المراحل التالية للصراع، ما قد يلقي بظلاله على الأبعاد الأمنية المحلية والإقليمية بما فيها عدم القدرة على اتخاذ القرارات والمناورة في قضايا مصيرية ورئيسة كأزمتي المياه والحدود مع إثيوبيا.
التحول في إثيوبيا:
صعد رئيس الوزراء آبي أحمد علي، الذي ينتمي قبليًّا إلى نُخبة الأورومو إلى رئاسة الوزراء أواخر مارس 2018م، في حكومةٍ هي الأولى من نوعها منذ عام 1991م، بعد احتجاجات شعبية دامت ثلاث سنوات مهَّدت لإعلان سلفه هايلي ميريام ديسالين استقالته بعد أن تولَّى الوزارة خلفًا لميليس زيناوي عام 2012م([14]).
وبذلك أصبح آبي أحمد أول رئيس وزراء من عرقية “أورومو” منذ تدشين الائتلاف الحاكم في إثيوبيا (الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية التي أمسكت بزمام السلطة منذ عام 1991م). وهي عرقية تعد أكبر المجموعات في البلاد (40%)، التي طالما اشتكت من تحكم أقلية تيجراي (يمثلون 6% من الائتلاف) بمقاليد الحكم([15]).
ففي عامه الأول بالحكم، بدأ آبي أحمد عهده بإصلاحات منها إطلاق سراح سجناء سياسيين، وإنهاء صراع دام 20 سنة مع الجارة إريتريا، إضافة إلى توقيعه على اتفاق سلام مع جبهة تحرير أورومو التي ظلت تحارب منذ السبعينيات من أجل تقرير المصير في إقليم أوروميا أكبر أقاليم إثيوبيا؛ ما منحه أفضلية في الفوز بجائزة نوبل للسلام عام 2019م.
ومع ذلك، سريعًا ما واجه آبي أحمد تحديات كبيرة؛ إذ إنه في صيف 2020م، أسفر مقتل مُغنٍّ شعبي عن احتجاجات عنيفة بالعاصمة أديس أبابا وإقليم أوروميا، كان من تداعياتها مقتل العشرات، وقبل نهاية ذلك العام، اندلعت حرب أهلية في إقليم تيجراي بعدما شنّ مسلحون موالون للحزب الحاكم هجومًا على القواعد العسكرية هناك([16])، توسعت إلى أجزاء أخرى في البلاد، وخلَّفت مئات القتلى ونزوح آلاف العائلات إلى السودان، في وقتٍ كان يُنظَر إلى هذه الحرب الأهلية بكونها بمثابة تهديد قويّ لاستقرار الحكومة المركزية في أديس أبابا مع زحف القوميات المعارضة والمسلحة في تيجراي وأورومو نحو العاصمة، التي دارت حولها معارك عنيفة مع الحكومة([17]).
بيد أنه في مارس 2022م أعلن آبي أحمد هدنة أحادية الجانب لوقف القتال في تيجراي([18])، وفي الثاني من نوفمبر 2022م، وقَّعت الحكومة والمتمردون في تيجراي اتفاق سلام في بريتوريا بدولة جنوب إفريقيا، نص على وقف الأعمال العدائية بين الجانبين([19])، ومع ذلك، بقيت العديد من المجالات التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الاتفاق، ما خلَق تساؤلات حول مدى قبول آبي أحمد مفهوم المحاسبة وقادة التيجراي والمتورطين كافة في هذه الحرب، وهل يمكن تفعيل المادة 39 من الدستور من أجل إجراء استفتاء للانفصال في التيجراي؛ كما طالبت بذلك الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي؟([20]).
وإلى جانب أزمة تيجراي، شهد إقليم أمهرة في أبريل 2021م اشتباكات بين أكبر مجموعتين عرقيتين في إثيوبيا وهما الأورومو والأمهرة، وأشارت تقديرات من مسؤولين إلى أن عدد القتلى وصل إلى 200 شخص، كما شهد إقليم أوروميا في يونيو 2022م واحدة من أعنف الهجمات على المدنيين في إثيوبيا منذ سنوات؛ حيث قتل مسلحون حوالي 340 مدنيًّا، ولم تتوقف أعمال العنف المتكررة؛ إذ إنه بحلول أغسطس 2023م شهد إقليم أمهرة اشتباكات بين الجيش وميليشيا فانو المحلية سرعان ما تطوَّر الأمر ليصبح أخطر أزمة أمنية تشهدها إثيوبيا منذ نهاية حرب تيجراي([21]).
وفي ضوء عدم استتباب الأمر كليًّا لحكومة آبي أحمد، وتصاعد العنف مِن قِبَل القوميات المعارضة من آنٍ لآخر، يمكن القول: إنه لن يخدم عدم استقرار الأوضاع في إثيوبيا العلاقات الثنائية مع السودان، وربما يدفع إلى تصاعد الأزمات في عدة ملفات، كما أنه لو أُطيح بآبي أحمد من الحكومة فإنه سيكون من الصعوبة بمكان الاستقرار في إثيوبيا على قائد جديد في ظل تعارُض المصالح بين القوميات المختلفة بما يضع مجالاً نحو تقسيم البلاد بين القوميات المتناحرة.
علاقات متأرجحة:
تاريخيًّا، تأرجحت العلاقات السودانية الإثيوبية، بين الانسجام والتوتر، منذ وصول الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية إلى السلطة في إثيوبيا، والجبهة الإسلامية القومية في السودان، واتسمت خلال فترة رئاسة البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ميليس زيناوي 1991– 2012م بالإيجابية، وحتى بعد رحيل زيناوي عام 2012م مرورًا بولاية ديسالين.
ومع ذلك، مع صعود آبي أحمد إلى السلطة عام 2018م في إثيوبيا وقيادة حكومة عسكرية مدنية مشتركة “مجلس السيادة السوداني” السلطة بعد الإطاحة بالبشير أصبحت العلاقات الإيجابية بين البلدين مجهولة المصير مرة أخرى([22]).
شيَّد زيناوي والبشير، على مدار أكثر من 12 عامًا علاقات ثنائية صلبة، ومع وفاة الأول في 2012م، لم تكن التحديات والمتغيرات الإقليمية الجديدة واضحة على الفور مع تعيين خليفة زيناوي، هايلي ديسالين؛ حيث كانت مَهمته المُعيَّن على أساسها مواصلة إرث زيناوي، بما في ذلك الحفاظ على علاقات جيدة مع قادة دول الجوار باستثناء الرئيس الإريتري أسياس أفورقي؛ إذ وصفت العلاقات الثنائية بين البلدين في عهد البشير وديسالين بأنها “نموذج للتكامل الإقليمي”([23])، لكن سرعان ما تبين أن ديسالين ما هو إلا شخصية عابرة، فبحلول 2014م تعمَّق الصراع الداخلي في بلاده ما أثَّر على جعل العلاقات مع السودان هامشية لمواجهة مساعي الإطاحة بحكومته، وذلك بالتزامن مع وصول عدد النازحين الإثيوبيين إلى السودان إلى أرقام غير مسبوقة([24]). كما واجه ديسالين مشاكل حدودية مع السودان، واستمر وضع الأزمة الحدودية على ما هو عليه حتى الآن، وهو ما سيتم التطرق إليه تفصيلاً.
وبالنظر إلى تحولات خريطة علاقات السودان الخارجية في المرحلة الانتقالية الراهنة، تبدو العلاقات الثنائية مع دول الجوار قد شهدت تطورًا ملحوظًا لأسباب متعددة داخلية وخارجية، ففي ظل تعقُّد ملف السلام بين الحكومة الانتقالية والحركات الانفصالية؛ وجدت الحكومة السودانية نفسها مضطرة إلى طلب العون من حكومات دول الجوار، والتي تجمعها بالحركات المسلحة علاقات وطيدة، وهو الأمر الذي تجلَّى في العلاقات المتطورة مع كلٍّ من جنوب السودان وتشاد، وبدرجة أقل مع إثيوبيا وإريتريا.
كما أن الأوضاع الداخلية في إثيوبيا إلى جانب الصومال، قد تجعل السودان مرتكزًا للسياسات الأمريكية في القرن الإفريقي بعد التطبيع بين السودان وإسرائيل ورفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ورغم حالة الحرب الأهلية الراهنة، من المتوقع أن يسهم انفتاح السودان النشط على العالم، على المدى البعيد في تعزيز مكانته الإقليمية، في وقت تحيط بالسودان دول تعاني من أوضاع مضطربة على نحو ما تعكسه التوترات المتصاعدة من وقتٍ لآخر في إثيوبيا، إضافةً إلى السلام الهشّ في جنوب السودان وإفريقيا الوسطى والصراع المعقد في ليبيا([25]). بيد أن ذلك يبقى مشروطًا بما ستؤول إليه الأوضاع غير المستقرة حاليًّا في السودان.
على الجانب الآخر، كان آبي أحمد قد لعب دورًا بارزًا في المفاوضات بين الأطراف السودانية عقب الإطاحة بالبشير عام 2019م، وهو الدور الذي تمخَّض عنه تدشين الوثيقة الدستورية لإدارة المرحلة الانتقالية في السودان، وذلك خلال زيارته للخرطوم في يونيو 2019م، بعد تعليق الاتحاد الإفريقي ومقره إثيوبيا عضوية السودان في المنظمة القارية([26])، كما شارك آبي أحمد في مبادرات حلّ الأزمة الراهنة بين الجيش والدعم السريع والتي لم تحدث اختراقًا، مع اختلاف مضامين مختلف هذه المبادرات والدور الإثيوبي فيها.
وفي المقابل، رفضت أديس أبابا وساطة الخرطوم في ملف تيجراي، ووصفت العلاقة مع السودان بأنها “صعبة بعض الشيء”، وقالت: إن الثقة يجب أن تكون أساس أيّ وساطة، لكنها “تقوَّضت” خاصةً بعد “توغُّل الجيش السوداني في الأراضي الإثيوبية”([27])؛ الأمر الذي دفع الخرطوم إلى استدعاء سفيرها لدى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، للتشاور، بعد رفض إثيوبيا وساطة السودان بشأن الأزمة في إقليم تيجراي([28]).
المحور الثاني
النظم الحاكمة والملفات الثنائية
إلى حدٍّ كبير تتشابه بنية النظام السياسي في البلدين؛ باعتبارهما يواجهان عنفًا قبَليًّا وثوريًّا من وقتٍ لآخر، بيد أن إثيوبيا رغم العديد من المآخذ عليها تتسم بكونها أكثر تقدمًا اقتصاديًّا وسياسيًّا عن السودان؛ حيث تمكنت من إجراء انتخابات أفضت إلى رئاسة آبي أحمد للحكومة، في المقابل لم يقدر النظام الانتقالي في السودان على التوصل إلى آلية توافقية لإدارة البلاد رغم الوصول إلى عدة صِيَغ دستورية للحكم.
وفي سياق الاختلافات السياسية؛ فإن آبي أحمد منذ تأسيس حزب الازدهار بعد حل ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية عام 2019م، سعى إلى تقليص الفيدرالية الإثنية التي سعت بعض أطرافها إلى تقرير المصير والانفصال عن الحكومة المركزية في أديس أبابا، بينما يسير السودان في اتجاه مغاير يقوم على التركيز على الفيدرالية السياسية القائمة على أساس إثني، ما قد يُفْرِز في النهاية تقسيم البلد المقسم([29]).
كان آبي أحمد قادرًا على الوصول إلى السلطة بسبب تحالف تكتيكي بين مُكوّنات الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، ولسنوات كان ينظر إلى الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي باعتبارها التهديد الرئيسي لنظامه، ونظرًا لسيطرة التيجراي على مقاليد الحكم في إثيوبيا قبيل وصوله للحكم وتطويرها علاقات وثيقة مع السودان؛ كان يُنظَر إلى آبي أحمد كعنصر مُهدِّد لهذه العلاقات، لكن مع قدومه بدت الأمور أكثر إيجابية، ففي مايو 2018م وافقت إثيوبيا والسودان على تشكيل قوات مشتركة لحماية سد النهضة الذي يبعد 20 كيلو مترًا فقط عن الحدود السودانية مع إثيوبيا.
ويتمثل أكبر تهديد للعلاقات بين البلدين، في عدم الاستقرار الداخلي في كليهما؛ الأمر الذي يعود إلى عدة عناصر تتمثل في:
– صعود الحكومات الجديدة في كلا البلدين دون تاريخ طويل من العمل معًا.
– عدم سيطرة الحكومتين على مناطقهما الحدودية المشتركة.
– الشكوك حول وحدة واستقرار الحكومات في كل من الخرطوم وأديس أبابا.
– استمرار جهات خارجية، بما في ذلك دول الخليج ومصر والصين والولايات المتحدة، في التأثير على البلدين بطرق معقدة([30]).
وحول أثر طبيعة النظم الحاكمة على أشكال التعاون والصراع المختلفة؛ يسعى هذا المحور من الورقة إلى تفكيك أشكال التعاون والصراع المختلفة بين البلدين في ضوء المصلحة الوطني، وكذلك محاولة بناء سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقات الثنائية، على أن يتناول ملفين اثنين مرتبطين بالحدود والموارد المائية وسد النهضة.
ملف الحدود:
تُعد الحدود المتداخلة والمشتركة بين السودان وإثيوبيا من أطول الحدود في القارة الإفريقية، وهي أرض سودانية من قبل استقلال الدولة السودانية عام 1956م، وتقدر بـ727 كلم، وهي كذلك من الأقدم نزاعًا، حيث يتنازع البلدان حول منطقة الفشقة المتاخمة للحدود المشتركة، والتي تقع بين عوازل طبيعية مائية كالأنهار والمجاري المائية، وتبلغ مساحتها نحو 250 كم مربع، وتتمتع بمزايا عديدة تجعلها دائمًا محل أطماع خارجية، لا سيما في ظل غياب أمني حدودي لمدة عقود، وتتميز بالخصوبة العالية وتوفر المياه؛ الأمر الذي يؤهلها لأن تصبح أهم مورد للإنتاج الزراعي والحيواني للسودان إذا تم استثمارها بالصورة الجيدة([31]).
وتعود جذور أزمة النزاع الحدودي لعقود بعيدة، فتاريخ الخلاف على الفشقة يرجع للقرن الـ19، والذي كان قد انتهى إلى حل قانوني دبلوماسي بتوقيع معاهدة عام 1902م، والتي تم بمقتضاها ترسيم الحدود الشرقية للسودان مع إثيوبيا، ما أدى إلى حدوث استقرار مؤقت، لكن في أواخر خمسينيات القرن الماضي ظهرت القضية من جديد عندما بدأت الحكومة الإثيوبية الزراعة في المناطق الحدودية، وعلى الجانب الآخر أصبح السودان الذي كان قد حصل على استقلاله السياسي عن مصر عام 1956م شديد الحساسية تجاه مسألة الحدود([32]).
وفي السنوات الأخيرة، عادت الأزمة الحدودية من جديد بعد عقود من تغاضي الأنظمة المتعاقبة في كلا البلدين بدوافع واعتبارات سياسية، ففي النصف الثاني من 2020م قامت مجموعة من المزارعين الإثيوبيين، بتجاوز حدود بلادهم والدخول إلى الأراضي السودانية والقيام بزراعة المنطقة الحدودية المعروفة بخصوبتها والتابعة للسودان، ليعود الوضع لنقطة الخلاف القديمة، رغم البدء في ترسيم الحدود عام 2013م، وهو الترسيم الذي لم تنفذه إثيوبيا بعدُ([33]).
وزاد من فتيل أزمة التوترات الأمنية على الحدود المشتركة في مايو 2020م: توغل قوة من الجيش الإثيوبي، ومحاصرتها معسكرًا للجيش السوداني بمنطقة “القلابات” بولاية القضارف داخل الأراضي السودانية، وفيما أعلن الجيش السوداني أن اجتماعات مشتركة عقدت مع نظيره الإثيوبي لتجاوز الأمر تم خلالها الاتفاق على سحب القوات الإثيوبية إلى معسكرها، إلا أن قوة من الجيش الإثيوبي عاودت الهجوم والاشتباك مع القوات العسكرية السودانية في تلك المنطقة، وجرى تبادل إطلاق النار، ما أدى إلى مقتل ضابط برتبة نقيب، و6 أفراد من القوة ومدنيين([34]).
وتتهم الحكومة السودانية إثيوبيا باحتلال الفشقة في سنوات حكم البشير عبر ميليشيات تشكلت من مجموعات سكانية إثيوبية تعمل في النشاط الزراعي؛ حيث تضغط على الحكومة المركزية في أديس أبابا لاستعادة البلدة الغنية بالأراضي الزراعية، وظلت القوات السودانية خارج المنطقة حتى اندلاع النزاع في اقليم تيجراي الإثيوبي بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي في نوفمبر 2020م، وأعاد السودان نشر قواته في منطقة الفشقة لاستعادة أرضه، وتمركزت قواته عند خط الحدود الدولية، معلنًا استعادته لأراضٍ في المنطقة تقع ضمن حدوده الدولية، واتهمت إثيوبيا السودان بدخول أراض ضمن حدودها وحذرت من رد عسكري إذا تطلب الأمر([35]).
على أثر ذلك، شهدت العلاقات بين البلدين تصعيدًا كبيرًا في الربع الأخير من 2021م؛ حيث استدعى السودان سفيره لدى إثيوبيا للتشاور بعد رفض أديس أبابا وساطة الخرطوم بشأن الأزمة في إقليم تيجراي. وقالت الخارجية السودانية: إنها رصدت التصريحات التي صدرت عن مسؤولين إثيوبيين كبار برفض مساعدة السودان في إنهاء النزاع الدموي المحتدم في إقليم تيجراي، بدواعي عدم حياده واحتلاله لأراضٍ إثيوبية([36]).
ونتيجةً للتوتر في العلاقات كذلك، طلبت الحكومة السودانية رسميًّا من الأمم المتحدة استبدال قوات حفظ السلام الإثيوبية العاملة في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان بقوات من دول أخرى([37]).
وثمة آراء تشير في هذه الجزئية إلى أن لدى أديس أبابا إيمانًا بأن الخرطوم تنتهز الوضع الداخلي المضطرب لإثيوبيا، فضلاً عن اتهامها للحكومة الانتقالية بأن له أصابع فيما جرى في تيجراي، وهو ما دفع البعض إلى القول: إن حكومة آبي أحمد ردت على ذلك باستخدام وسائل لزعزعة أمن واستقرار السودان([38]).
نموذج (1) لمصفوفة المصلحة في ملف الحدود بين السودان وإثيوبيا
المصلحة الوطنية
|
كثافة المصلحة | |||
مصيرية | حيوية | عظمى | فرعية | |
الدفاع عن أرض الوطن | السودان | إثيوبيا | – | – |
الرفاهية الاقتصادية | السودان/ إثيوبيا | – | – | – |
نظام عالمي ملائم | – | – | – | – |
تعزيز القيم | – | السودان | إثيوبيا | – |
وفي الضوء التراكمات التاريخية والراهنة المرتبطة بالأزمة الحدودية بين البلدين؛ فإنه في ظل ما تشهده إثيوبيا والسودان من معدل نمو سكاني مرتفع؛ مما يزيد من الحاجة لمزيد من الغذاء؛ تبقى النزاعات المرتبطة بالتوترات الحدودية والحاجة للأراضي الخصبة تحديًا كبيرًا في العلاقات الثنائية؛ ما لم يتم ترسيمها بناء على حلول طويلة الأمد، والامتثال للعُرْف الإفريقي في احترام الحدود الدولية التي رسمها الاستعمار وورثتها الدول الإفريقية([39]).
ومن المتوقع أن تبقى الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا مزمنة؛ مهما كانت الإدارة السياسية في كليهما، وستزداد حدتها في أوقات الأزمات الداخلية كمخرج اعتاد عليه القادة الأفارقة لتهدئة الرفض الشعبي لهم، أو البحث عن عدو خارجيّ يمكن من خلال الترويج له لإسكات المعارضين، كما أنه من المستبعَد أن تمثل الأزمة مسار تقارب بين حكومة آبي أحمد والحكومة الانتقالية في السودان؛ نظرًا لحجم الخسارة الفادحة المحتملة؛ لمن يقدم تنازلاً أمام شعبه بما يهدّد من شعبيته أو يمثل نافذة وطنية للإطاحة به.
الموارد المائية وسد النهضة
تتكون الموارد المائية في السودان من مياه الأمطار والمياه السطحية والمياه الجوفية، وتقدر كمية المياه العذبة المتجددة السطحية في السودان بمقدار 149 مليار متر مكعب سنويًّا، منها 80% تأتي عبر الحدود من دول المنبع، والباقي 20% داخليًّا من الأمطار التي تصل إلى 1042 مليار متر مكعب سنويًّا يتركز معظمها في جنوب السودان (قبل الانفصال[40])().
وينصبّ تركيز هذه الورقة على النيل الأزرق باعتباره الرافد الرئيس لنهر النيل للسودان، ويعد من أهم المنابع الإثيوبية، خلافًا للروافد الأخرى كالبحيرات العظمى. وفي العقود الثلاثة الماضية تصاعدت الخلافات بين دول حوض النيل حول توزيع حصص المياه وكيفية استخدامها.
وهنا تنقسم دول الحوض في الخلاف إلى فريقين؛ الأول يضم دول المصب (السودان ومصر)، والآخر دول المنبع (إثيوبيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية وبوروندي وتنزانيا ورواندا وكينيا وإريتريا)، إضافة إلى دولة جنوب السودان حديثة الاستقلال، وتَعُدّها بعض الدراسات دولة مَمَرّ([41]).
بدأت مرحلة التصعيد في النزاع بين دول المصبّ ودول المنبع في اجتماع وزراء دول حوض النيل في مايو 2010م، في العاصمة الكونغولية كينشاسا، وذلك بعد رفض مصر والسودان التوقيع على الاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض النيل لإعادة تقسيم المياه، وإنشاء مفوضية لدول الحوض، ما لم يتم النص صراحة على ثلاثة شروط وبشكل واضح؛ وهي التأكيد على الحقوق التاريخية لكل من مصر والسودان في مياه النيل، والإخطار المُسبَق عن كل المشروعات التي يتم نفيذها على النهر وفروعه، وعدم جواز تغيير أيّ بند من بنود هذه الاتفاقية إلا بإجماع الآراء، وهو ما جعل دول المنبع تعلن رفضها لتلك الشروط، وتُوقِّع في مايو 2010م بمدينة عنتيبي الأوغندية على اتفاق إطاري جديد لتنظيم العلاقات بين دول الحوض دون موافقة مصر والسودان([42]).
وفي أغسطس 2020م، دعت الحكومة الإثيوبية، إلى سرعة التوقيع على اتفاقية عنتيبي أو التصديق عليها، وجاءت الدعوة على لسان رئيس الوزراء آبي أحمد، في وقتٍ أوشكت فيه بلاده على الانتهاء من بناء سد النهضة واستمرارها في ملء بحيرة السد، كما أن الاتفاقية المذكورة تعد بدايةً لأزمة السد الذي يُتوقع له أن يصبح أكبر سد كهرومائي في القارة الإفريقية، وهو واحد من عدة سدود من المتوقع أن تشيدها إثيوبيا بغرض توليد الطاقة الكهربائية.
ومن أبرز مهددات سد النهضة بالنسبة للسودان: التوتر السياسي من وقتٍ لآخر بسبب المشروع، وزيادة فرص تعرُّض السد للانهيار؛ نتيجةً للعوامل الجيولوجية، وسرعة اندفاع مياه النيل الأزرق، وإذا ما حدث ذلك فإن الضرر الأكبر سوف يلحق بقرى ومدن سودانية قد تجرفها المياه، وزيادة فرص حدوث زلازل بالمنطقة لثقل وزن المياه في تربة وصخور متشققة من قبل، وفقدان السودان إلى جانب مصر لكمية المياه التي تعادل سعة التخزين الميت للسد([43]).
نموذج (2) لمصفوفة المصلحة في ملف المياه وسد النهضة بين السودان وإثيوبيا
المصلحة الوطنية
|
كثافة المصلحة | |||
مصيرية | حيوية | عظمى | فرعية | |
الدفاع عن أرض الوطن | إثيوبيا | السودان | – | – |
الرفاهية الاقتصادية | إثيوبيا | السودان | – | – |
نظام عالمي ملائم | – | – | – | – |
تعزيز القيم | – | إثيوبيا | السودان |
– |
ورغم ذلك وعلى مدار عقد مضى، تباين الموقف السوداني إزاء السد وسط انقسام بين الخبراء السودانيين، فهناك من رأى فيه فوائد، وفريق آخر رفَضه بحجج الضرر والتأثير على حصة السودان من مياه النيل، وهو ما بدا جليًّا في تأرجح الموقف السوداني بين لعب دور الوسيط تارةً في العملية التفاوضية، وتارةً أخرى كطرف أصيل له مصلحة، خلافًا لمراوحة السودان مكانه مرة في دعم الموقف المصري، أو على النقيض بدعم الموقف الإثيوبي. وبالتالي فإن المواقف السابقة للحكومات السودانية فيما يخص قضايا المياه وأزمة سد النهضة، والتي تأرجحت بين حين وآخر، تُعبّر عن عدم وجود استراتيجية قومية داخل الدولة السودانية في هذا الشأن، أما على الجانب الآخر فإن حكومة أديس أبابا تَعتبر سد النهضة قضية أمن وهدف قومي يلتفّ حوله الشعب، ومن خلف ذلك تسعى لمزيد من التأييد الشعبي عبر تمسكها بهذا المشروع مهما كانت تداعياته، وإن وصلت حد الحرب([44]).
ختامًا، تشتبك العلاقات السودانية الإثيوبية مع جملةٍ من الأزمات الثنائية التي أدت إلى تصاعد التوتر بين البلدين على غرار التوتر الحدودي وسد النهضة، إضافةً إلى دور اللاعبين الإقليميين والفاعلين الدوليين في تأجيج هكذا أزمات أو دعم التعاون حسب ما تقتضيه المصلحة الوطنية لكل طرف.
وبناء على ذلك ترصد هذه الورقة مجموعة من النتائج والتوصيات التي توصلت إليها؛ وهي:
– تغير الأنظمة السياسية في البلدين لن يكون له دور فاعل في دعم التعاون بينهما، ما لم تكن هناك قرارات ثورية وجريئة تنفض الغبار عن مُسكّنات الأنظمة السابقة في أزمتي الحدود والمياه.
– هناك افتقار في الرؤية السياسية لحكومتي البلدين في التفاعل مع القضايا الثنائية والإقليمية بما فيها المياه والحدود.
– التهديد الإثني الذي يواجه حكومة آبي أحمد وبقائها في السلطة من حين لآخر، لن يُفْضي إلى تهدئة الأزمات المتزامنة من وقتٍ لآخر مع السودان، وحال رحيله سيكون من الصعب الوصول إلى نقطة عودة في تماسك الدولة الإثيوبية في ظل رغبة مختلف القوميات في البحث عن مصالح قد تبدو ضيقة، وقد تصل في رغبتها إلى الانفصال عن الدولة الأم، وهي أمور ستلقي بظلالها بقوة على العلاقات مع الخرطوم.
– طول الفترة الانتقالية في السودان لن يثمر عن مصالح حقيقية للدولة السودانية على المستوى الزمني القريب أو المتوسط أو البعيد، خصوصًا فيما يرتبط بالملفات الأمنية والجيواستراتيجية في حوض النيل والقرن الإفريقي.
[1] – John yong, Cooperation and Conflict Transitions in Modern Ethiopian–Sudanese Relations, small arms survey (Geneva, Graduate Institute of International and Development Studies, may 2020)
[2] – د. أحمد أمل، “تحولات خريطة العلاقات الخارجية السودانية ما بعد نظام البشير”، (مركز دعم واتخاذ القرار التابع للحكومة المصرية، 22 نوفمبر 2020م).
[3] – الموقع الإلكتروني لوكالة الأناضول، “السودان.. ثورة الخبز تطيح بالبشير (تسلسل زمني)”، (أنقرة، وكالة الأنباء الرسمية في تركيا، 11 أبريل 2019م)
[4] – سونا، “الجيش يعلن عزل البشير وتكوين مجلس عسكري”، (الخرطوم، وكالة الأنباء الرسمية في السودان، 11 أبريل 2019م)،
[5] – السودان، “الوثيقة الدستورية الانتقالية، لسنة 2019م”، الجريدة الرسمية رقم 1895 لسنة 2019م.
[6] – أ. د. حمدي عبد الرحمن، “الثورة السودانية وأفرقة علم السياسة”، الموقع الإلكتروني لمجلة قراءات أفريقية، 26 أغسطس 2019م
[7] – د. عبد الله فيصل علام، “العلاقات المدنية – العسكرية وإدارة المرحلة الانتقالية في السودان”، دراسة منشورة ضمن إصدارات مجلة المستقبل العربي (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 495، مايو 2020م)، ص 27.
[8] – وزارة الثقافة والإعلام السودانية، صحفة رسمية على موقع فيسبوك، 25 أكتوبر 2021م:
[9] – الصفحة الرسمية لقوى إعلان الحرية والتغير على موقع فيسبوك، 21 نوفمبر 2021م:
[10] – سونا، “التوقيع على اتفاق سياسي بين حمدوك والبرهان”، 21 نوفمبر 2021 م:
[11] – بيان استقالة عبد الله حمدوك من رئاسة الوزراء، صفحته الرسمية على موقع فيسبوك، 4 يناير 2022م:
[12] – سونا، نص وثيقة الاتفاق السياسي الإطاري، 5 ديسمبر 2022م
[13] – د. أحمد أمل، “قراءة أولية للاتفاق السياسي الإطاري في السودان”، (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 6 ديسمبر 2022م). https://bit.ly/3C0R5XZ
[14] – سمر إبراهيم، “كاتب إثيوبي: استقالة «ديسالين» استجابة لمطالب الشعب.. ولن تؤثر على «سد النهضة»”، المصري اليوم، (القاهرة، مؤسسة المصري اليوم للصحافة والنشر، 15 فبراير 2018م) https://bit.ly/30gZpmG
[15] – بي بي سي، “”آبي أحمد” أول رئيس وزراء من عرقية أورومو يحكم إثيوبيا” (هيئة الإذاعة البريطانية، 28 مارس 2018م) https://bbc.in/3ygPTg6
[16] SWI swissinfo.ch، “تسلسل زمني-الحرب والسلام في إثيوبيا تحت حكم أبي أحمد”، (الوحدة الدولية التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية (SBC) 4 أغسطس 2023م): https://bit.ly/3PihDe9
[17] – الجزيرة نت، “حشود وزحف وتطويق.. معارك محتدمة في إثيوبيا والحكومة تشترط للتفاوض مع المتمردين”، (الدوحة، شبكة الجزيرة الإعلامية، 12 نوفمبر 2021م): https://bit.ly/3IFmHnD
[18] – فرانس 24، “إثيوبيا: الحكومة تعلن عن “هدنة إنسانية مفتوحة” مع إقليم تيغراي لإيصال المساعدات”، 24 مارس 2022م، https://bit.ly/3WrXWSp
[19] – إذاعة فانا الإثيوبية، “انتهاء المحادثات في جنوب إفريقيا على نحو يحترم النظام الدستوري والمصالح الوطنية لإثيوبيا”، 2 نوفمبر 2022م، https://bit.ly/3VqALGV
[20] – أ. د. حمدي عبد الرحمن، “تحديات الصفقة: هل يتحقق السلام بإقليم التيجراي بعد اتفاق بريتوريا؟”، مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة، 5 نوفمبر 2022م، https://bit.ly/3hW1Bck
[21] SWI swissinfo.ch، “تسلسل زمني-الحرب والسلام في إثيوبيا تحت حكم أبي أحمد”، م. س
[22] – john yong, op.cit
[23] – Venturesafrica ,”ETHIOPIA – SUDAN BILATERAL RELATIONS: A MODEL FOR REGIONAL INTEGRATION”, 16 December 2013 https://bit.ly/3VjwPYh
[24] –Humanitarian Information Unit (US Dept of State), Ethiopia: Displacement and Food Security, 16 November 2018 https://bit.ly/47QtKql
[25] – أحمد أمل، م. س. ذ
[26] – العربية نت، “الوساطة الإثيوبية.. مجلس سيادي سوداني بـ8 مدنيين و7 عسكريين”، (مركز تلفزيون الشرق الأوسط MBC، 7 يونيو 2019م) https://bit.ly/3GFstUH
[27] – euronews، “السودان يستدعي سفيره لدى إثيوبيا بعد رفض عرض للوساطة في صراع تيجراي”، 8 أغسطس 2021م، https://bit.ly/45wWRNS
[28] – روسيا اليوم، “السودان يستدعي سفيره لدى إثيوبيا للتشاور”، (مؤسسة تي في – نوفوستي الروسية 8 أغسطس 2021م)، https://bit.ly/3pNc1e4
[29] – منى عبد الفتاح، “ماذا يعني فوز آبي أحمد بالانتخابات بالنسبة إلى السودان؟”، اندبندنت عربية (النسخة العربية والإلكترونية من صحيفة “اندبندنت” البريطانية الرقمية، 12 يوليو 2021م)، https://bit.ly/3lXdjlQ
[30] -john yong, op.cit.
[31] – عوض أحمد حسين، “النزاع الحدودي بين السودان وأثيوبيا: الفشقة أنموذجا”، بحث منشور ضمن إصدارات مركز بحوث ودراسات دول حوض البحر الأحمر وجامعة سليمان الدولية بتركيا، السودان،2021.
[32] – بسمة سعد، “النزاع الحدودي الإثيوبي – السوداني.. دوافع التصعيد ومآلاته”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
[33] – صفاء عزب، “هل تؤثر أزمة “الفشقة” على علاقة السودان بإثيوبيا؟”، الصومال الجديد (مؤسسة الصومال الجديد للإعلام والبحوث والتنمية، مقديشيو، 18 أبريل 2020م)، https://bit.ly/3q7sES7
[34] – سي إن إن، “اشتباكات بين الجيش السوداني والإثيوبي بسبب “اعتداءات” لأديس أبابا على مياه النيل”، (شبكة سي إن إن الأمريكية، دبي، 29 مايو 2020م)، https://cnn.it/3Gwhz3e
[35] – جمعة حمد الله، “هل وصلت العلاقات السودانية الإثيوبية إلى طريق مسدود؟ (تقرير)”، المصري اليوم، 12 سبتمبر 2021م. https://bit.ly/3II2kGw
[36] – وزارة خارجية جمهورية السودان”، بيان صحفي حول تصريحات مسؤولين اثيوبيين بشأن رفض مساعدة السودان في انهاء النزاع في إقليم تيجراي”، الصفحة الرسمية للوزارة عبر موقع فيسبوك، 8 أغسطس 2021م. https://bit.ly/30h1cYW
[37] – وزارة خارجية السودان، المرجع السابق https://bit.ly/3ygLSbi
[38] – أحمد همام محمد أحمد، “العوامل المؤثرة على الصراعات الحدودية ما بين السودان وإثيوبيا”، جامعة أسيوط، كلية التجارة، مجلة السياسة والاقتصاد، المقالة 13، المجلد 15، العدد 14، أبريل 2022م، ص 517. https://bit.ly/3VmzjoR
[39] -Alemayehu Erkihun Engida, “Contesting issues between Ethiopia and Sudan over the Gwynn Line: Authorisation and irregularities in the demarcation of the boundary”, Wiley Online Library 17 July 2021 https://bit.ly/3rUKHgI
[40] – عباس شراقي، “الموارد المائية في السودان بعد استقلال دولة جنوب السودان” في محمود أبو العينين (محرر)، التقرير الاستراتيجي الإفريقي 2010: 2011م، (القاهرة: كلية الدراسات الإفريقية، الإصدار السابع، 2011م)، ص 49.
[41] – نادية عبد الفتاح، “الاتفاقية الإطارية (اتفاقية عنتيبي): المفاهيم القانونية والسياسية”، في محمود أبو العينين، م. س. ص 73.
[42] -The Nile Basin Initiative, Agreement on the Nile River Basin Cooperative Framework, Kinshasa, 22 May 2009 https://bit.ly/3GwiPmY
[43] – عباس شراقي، “سد النهضة (الألفية) الإثيوبي وتأثيره على مصر والسودان” في محمود أبو العينين، م.س. ذ، ص 145.
[44] – علي بن فضل الله أحمد، “العلاقات السودانية الإثيوبية: رهانات الأمن والسياسة (2011-2021م)”، دراسة منشورة ضمن إصدارات مجلة القلزم للدراسات الأمنية والاستراتيجية، (تركيا، مركز بحوث ودراسات دول حوض البحر الأحمر وجامعة سليمان الدولية، العدد الثاني، يونيو 2021م).