نهاد محمود
باحثة دكتوراه – كلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
في أعقاب الوضع شديد التَّعقُّد الذي تعيشه النيجر منذ الاستيلاء غير الدستوري على السلطة في يوليو الفائت؛ تُشير التقارير الدولية، وبخاصة تلك الصادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى ضرورة تسوية المواقف المتعارضة حول الإطاحة بالرئيس النيجري “محمد بازوم”، تجنُّبًا لأزمة إنسانية شديدة الخطورة تلوح في الأفق بنيامي.
في هذا السياق تقول المفوضية: إن الأزمة السياسية المستمرة، مع عدم وجود تسوية عاجلة، تُولِّد حالةً من القلق، وبخاصة في ظلّ ما تعانيه البلاد من هجمات متكررة مِن قِبَل التنظيمات الإرهابية المسلحة، لا سيما تلك المندلعة بالقرب من حدود مالي وبوركينا فاسو، والتي أدَّت -مع تداعيات الانقلاب- إلى نزوح أكثر من 20,000 شخص خلال شهر يوليو فقط.
بناءً على ما تقدَّم، تسعى هذه المقالة إلى بيان أبرز تداعيات الانقلاب العسكري على الوضع الإنساني بالداخل النيجري، بما في ذلك المواطنون، النازحون، واللاجئون للنيجر من دول الجوار، مع تسليط الضوء على بعض مواقف القوى الكبرى والمنظمات المعنية بالإغاثة بالنيجر إزاء الوضع الإنساني الحَرِج.
تداعيات عقوبات إيكواس على الأوضاع المعيشية:
أعلنت “إيكواس” -في قمتها الطارئة بالعاصمة النيجيرية أبوجا في 30 يوليو الماضي- عن فرض عدد من العقوبات على النيجر، شملت إيقاف جميع المعاملات التجارية والمالية بين النيجر وجميع الدول الأعضاء بإيكواس، وتجميد أصول النيجر في البنوك المركزية للدول الأعضاء بها، فضلًا عن إغلاق نيجيريا لحدودها مع النيجر. ما أدى إلى تحديات إضافية على الدولة الحبيسة، خاصة مع الاعتماد على نقل غالبية الواردات الرئيسة، بما في ذلك المواد الغذائية الأساسية مثل الأرز، بالشاحنات من البلدان المجاورة.
تُضيف المفوضية في هذا الإطار، أن إغلاق الحدود أدَّى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية التي كانت مرتفعة بالفعل. تتزايد المخاوف مع الوضع في الاعتبار أن العقوبات المفروضة لا تشمل حاليًّا أيّ استثناءات إنسانية، ممَّا قد يؤدي إلى نقصٍ حادٍّ في الغذاء والمساعدات الأخرى لمن هم في أمسّ الحاجة إليها. وفي حين أن التأثير الكامل للعقوبات لا يُشكِّل كارثة الآن؛ إلا أنه وبمرور الوقت إذا لم يتم رفع هذه العقوبات والسماح بدخول المساعدات الإنسانية الكافية، يمكن أن يكون لها بعض الآثار بالغة الخطورة.
ويشعر النيجريون في الدولة الواقعة بمنطقة الساحل بالفعل بالعديد من الضغوط الاقتصادية، على سبيل المثال فبعد مرور الأسبوع الأول فقط على الانقلاب، وفي مدينة مارادي الجنوبية في النيجر، والتي تقع على بعد 40 كيلو مترًا فقط من الحدود مع نيجيريا، يقول أحد السكان: إنه صُدِمَ من ارتفاع سعر الأرز منذ استيلاء العسكريين على السلطة؛ حيث ارتفع سعر العبوة من 11,000 فرنك غرب إفريقي (16,75 يورو أو 18,30 دولارًا) إلى 13,000 فرنك في غضون أيام قليلة، بارتفاع بنسبة 20٪.
وقال: “لديَّ ما يكفي للشراء، لكنني أشعر بالأسف على الأشد فقرًا الذين لا يستطيعون شراء عبوة واحدة، الأيام المقبلة ستكون صعبة للغاية، علينا فقط أن نُصلِّي من أجل أن تسير الأمور على ما يرام”.
ويبدو أن ما تشهده البلاد من ارتفاع بأسعار السلع سيستمر؛ خاصةً أن إغلاق الحدود سيجعل الغذاء والسلع الأخرى أكثر ندرةً، بما يؤدي لتفاقم الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك ارتفاع التضخم ونقص الموارد والخدمات وإمدادات الطاقة؛ بسبب القيود الأخيرة على الحركة، مما زاد من إجهاد السكان الضعفاء بالفعل.
ولمزيد من الضغط على الانقلابيين، وتماشيًا مع عقوبات “إيكواس”؛ أوقفت نيجيريا مدّ النيجر بالكهرباء، التي تعتمد عليها النيجر في توفير 70% من احتياجاتها من الطاقة، ما أدى إلى تعطيل الأعمال التجارية الصغيرة وتلف المواد الغذائية، بما في ذلك المكمّلات الغذائية للأطفال. وعانت بشكل عام العديد من المناطق من انقطاع متكرر للتيار الكهربائي، على الرغم من أن أقل من واحد من كل خمسة أشخاص يحصلون بالفعل على الكهرباء في البلاد؛ وفقًا للبنك الدولي.
ويقول لاوال سايابو، منسّق شبكة لجماعات حقوق الإنسان بنيامي في هذا السياق: “إن العقوبات كانت شديدة التأثير على حياة المواطنين، لكنَّ الكثيرين ما زالوا يواصلون النضال من أجل رؤية رئيسهم والمؤسسات التي اختاروها ديمقراطيًّا”.
اعتماد متصاعد على المساعدات يزيد من التأزم:
على الرغم من التحديات العديدة التي تواجهها منظمات الإغاثة كالمفوضية التابعة للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين،- بما في ذلك تنقل الموظفين، ووقف الرحلات الجوية بسبب نقص الوقود، وبطء استقبال واردات المساعدات-؛ تواصل المفوضية وشركاؤها العمل في جميع أنحاء البلاد، مؤكدة على التزامها بالبقاء وتقديم الخدمات للنازحين قسرًا والسكان المضيفين الذين هم في أمس الحاجة إليها.
ويتواصل توفير الخدمات والمساعدات الحيوية، بما في ذلك الغذاء والمأوى والرعاية الصحية والتواصل المجتمعي والتعليم. وبالرغم من الاحتياجات المتزايدة؛ إلا أن المفوضية لم تتلقَّ سوى 39٪ من مبلغ 135,7 مليون دولار المطلوب للحفاظ على الأنشطة الإنسانية هذا العام. ومن المتوقع أن تزداد متطلبات التمويل إذا لم يتم تسوية الأزمة في الأشهر المقبلة.
يزيد من الوضع الإنساني المرتبك الفقر المدقع الذي تعاني منه النيجر كواحدة من أفقر دول العالم، في ظل أزمة إنسانية تُوصَف بأنها الأسوأ في البلاد منذ حوالي 10 أعوام. أضف إلى ذلك أن ثلثي النيجر عبارة عن صحراء قاحلة مع القليل من الأراضي الصالحة للزراعة. وفي ظل هذا يعتمد نحو 4,3 مليون شخص (17٪ من السكان) على المساعدات الغذائية للبقاء على قيد الحياة.
في هذا السياق يقول متحدث باسم الأمم المتحدة: “إن العمليات الإنسانية للأمم المتحدة استمرت دون انقطاع، مضيفًا أن التحركات على الطرق ممكنة، وتم التصريح بها، لكنَّ بعض المانحين للنيجر كالاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة خفَّضوا أنواعًا مختلفة من مساعدات التنمية وميزانية دعم الحكومة منذ الانقلاب”.
جدير بالذكر أن الدولة تتلقَّى ما يقرب من 2 مليار دولار سنويًّا من المساعدات الإنمائية الرسمية؛ حيث يأتي حوالي 40٪ من ميزانية الحكومة النيجرية من المساعدات الخارجية.
ردود فعل دولية متباينة.. بين مُدين للأزمة الإنسانية ومُحفّز على تفاقمها:
في بيان صادر عن “يان إيغلاند”، الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، في أعقاب الانقلاب في النيجر والإعلان عن نشر قوات احتياطية تابعة للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا قال فيه: “نشعر بقلق عميق إزاء الوضع المتصاعد في النيجر، البلد الذي يُواجه بالفعل أزمتين إنسانيتين واسعتَي النطاق في وسط الساحل وحوض بحيرة تشاد. في هذا السياق المتقلب، هناك مخاطر كبيرة للغاية لمزيد من زعزعة الاستقرار لكلٍّ من البلاد والمنطقة الأوسع.
نحن قلقون بشكل خاصّ بشأن تداعيات أيّ صراع على اللاجئين القادمين من دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وبشأن عمليات النزوح القسري الجديدة التي يمكن أن يؤدي إليها التصعيد المسلح”.
وأضاف: “لا يمكننا المبالغة في تقدير تأثير الأزمة على المدنيين، سواء من حيث الاحتياجات الإنسانية أو احتياجات الحماية”، خاصةً أن البلاد تعاني بالفعل من أزمات إنسانية عديدة من قبل الإطاحة ببازوم، وتشير التقديرات إلى أن واحدًا من كل ستة أشخاص كانوا قبل الانقلاب بحاجة إلى مساعدات إنسانية. ومن المتوقع أن يكون للعقوبات وتعليق المعونة الإنمائية أثر كبير على الظروف المعيشية للسكان المحاطين بالفعل بجملةٍ من الضغوط الشديدة. والآن، يتعرَّض ما يُقدَّر بنحو 1,4 مليون شخص لمخاطر إضافية مثل التحاق الشباب بالجماعات المسلحة، وعمالة الأطفال، وزواج القاصرات.
رغم ذلك يرى “إيغلاند” وجود متَّسع من الوقت لتجنُّب المواجهة العسكرية وإيجاد حل سلمي. كما أنه يجب على الدول المجاورة والتكتلات التي تصدر العقوبات أن تعمل على تقليل الآثار السلبية لهذه العقوبات على المدنيين بإدراج استثناءات إنسانية في حال تطبيق أيّ عقوبات قائمة ومستقبلية. ونحثّ جميع الأطراف على الالتزام بالقانون الإنساني الدولي وضمان حماية المدنيين، فضلًا عن ضرورة الوصول الآمن والمستمرّ ودون عوائق إلى السكان الأكثر ضعفًا والأشد حاجة”.
على صعيد مغاير؛ أعلنت الولايات المتحدة في الخامس من أغسطس 2023م توقُّف بعض برامج المساعدات الخارجية للنيجر؛ حيث قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: “إن واشنطن ستُوقف بعض برامج المساعدات الخارجية للنيجر، لكنها ستواصل تقديم المساعدات الإنسانية والغذائية”. واستكمل بلينكن “كما أوضحنا منذ بداية هذا الوضع؛ فإن تقديم المساعدة الأمريكية لحكومة النيجر يعتمد على الحكم الديمقراطي واحترام النظام الدستوري”.
وأضاف: “ما زلنا ملتزمين بدعم شعب النيجر لمساعدته في الحفاظ على ديمقراطيته التي اكتسبها بشق الأنفس، ونكرر دعوتنا إلى الاستعادة الفورية لحكومة النيجر المنتخبة ديمقراطيًّا”.
بيانات وإحصاءات تؤشر على وضع شديد الخطورة في النيجر:
وفقًا للبيانات الصادرة من البنك الدولي والهيئات ذات الصلة بشؤون النازحين واللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وما يتصل بالوضع الداخلي في النيجر، نشير إلى الأرقام التالية:
- تُعدّ النيجر واحدة من أفقر دول العالم؛ حيث يعيش أكثر من 10 ملايين شخص (أكثر من 40٪ من السكان) في فقر مدقع؛ لكنها أيضًا تُصنَّف كأصغر دول العالم؛ حيث إن 49٪ من السكان تقلّ أعمارهم حاليًّا عن 15 عامًا.
- وصل عدد النازحين اعتبارًا من يونيو 2023م إلى أكثر من 400,000 داخل البلاد، التي تستضيف أيضًا أكثر من 250 ألف لاجئ، معظمهم من نيجيريا ومالي وبوركينا فاسو.
- يحتاج حوالي 4,3 مليون شخص (1 من كل 6 أشخاص في البلاد) إلى مساعدات إنسانية منذ بداية عام 2023م، بعد أن كانوا 1,9 مليون شخص خلال عام 2017م.
- يعاني 2,5 مليون مواطن بالنيجر من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بل وصل هذا الرقم إلى 3 ملايين شخص خلال موسم الجفاف الذي امتدَّ من يونيو إلى أغسطس.
- أدَّى ارتفاع تكاليف المعيشة وانعدام الأمن إلى زيادة مخاطر عدة؛ كالزواج المبكر والعنف الجنسي، والاتجار بالبشر. وفي يوليو الماضي، رصدت المفوضية 255 حادثة، بما في ذلك الاختطاف والعنف القائم على النوع الاجتماعي والعنف المنزلي. ووقعت هذه الحوادث في تاهوا ومارادي وتيلابيري وديفا. وفي حين أن هذه البيانات تتماشى مع الأشهر السابقة لشهر يوليو، أي قبل الانقلاب؛ إلا أن فِرَق المفوضية لاحظت زيادةً حادةً في مثل هذه الحوادث منذ 26 يوليو. وفي الفترة ما بين 26 و31 يوليو لُوحِظَت زيادة بنسبة 50% بالحوادث المماثلة؛ مقارنةً بالأسابيع السابقة من يوليو الماضي.
- يتعرّض أكثر من 1,4 مليون شخص لمخاطر إضافية؛ فمن المتوقع أن تؤدي العقوبات وتعليق المساعدات الخارجية إلى لجوء السكان الأكثر ضعفًا إلى مسارات سلبية، خارجة عن القانون، من أجل التعامل مع ارتفاع تكاليف المعيشة.
- جدير بالذكر أنه تم صرف 37٪ فقط من 584 مليون دولار أمريكي مطلوبة لتلبية الاحتياجات الإنسانية في عام 2023م حتى الآن، كما تم تمويل خطة الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة البالغة 584 مليون دولار للدولة الواقعة في غرب إفريقيا بنسبة 32٪ حاليًّا.
في النهاية، ووفقًا للمؤشرات والبيانات سالفة الذكر التي تؤكد أننا أمام أزمة إنسانية شديدة الحرج، على مُدبِّري الانقلاب النيجريين والأطراف الإقليمية والدولية المُنخرطة بالمشهد، الإدراك الجيد لما يَعنيه الخيار العسكري ومآلاته، التي يأتي من أبرزها: خلق دائرة قتال جديدة بمنطقة الساحل التي تشهد بالفعل دوائر عنف جمَّة، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية التي تُجيد استغلال السياقات والفراغات الأمنية بضراوة لمزيد من التمدد والانتشار بمنطقة الساحل، خاصةً مع بدء انسحاب بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي “مينوسما”، وما يعنيه كل ذلك من تفاقم الأوضاع الإنسانية والأمنية على المدنيين، ليس فقط بالداخل النيجري، بل على امتداد منطقة الساحل ككل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
- Betul Yuruk, “UN puts humanitarian operations on hold in Niger after coup attempt”, Jul 27, 2023, on: https://www.aa.com.tr/en/americas/un-puts-humanitarian-operations-on-hold-in-niger-after-coup-attempt/2956228
- Kate Hairsine, “Niger coup: How ordinary people are paying the price”, DW, Aug 4, 2023, on: https://www.dw.com/en/niger-coup-how-ordinary-people-are-paying-the-price/a-66442625
- Rachel Chason, “Niger’s population struggles with daily life after coup”, The Washington Post, Aug 29, 2023, on: https://www.washingtonpost.com/world/2023/08/27/niger-coup-ecowas-sanctions/
- “UN bracing for humanitarian crisis in coup-hit Niger”, Ahram, Aug 29, 2023, On: https://english.ahram.org.eg/News/507414.aspx
- “Military escalation must not push Niger and wider region into deeper humanitarian crisis”, Norwegian Refugee Council, Aug 2023, on: https://www.nrc.no/news/2023/august/military-escalation-must-not-push-niger-and-wider-region-into-deeper-humanitarian-crisis/