محمد عبد الكريم
احتفى العالم في مايو 2023م بتجاوز وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عامه المائة، وفيما طغت تحليلات كيسنجر بخصوص العلاقات الأمريكية مع الصين ضمن حوار مع ذي إيكونومست في الشهر نفسه على ما عداها من جوانب في هذا الاحتفاء؛ جاءت إفريقيا في سيرته الذاتية على استحياء، لا سيما أنه لعب أدوارًا استخباراتية ومعادية لحركات التحرُّر الوطني في القارة، وخضعت سياساته لتصورات ع
نصرية فجَّة، وقد تناولت ذلك عدة مقالات في صحف مختلفة.
جاء المقال الأول ليكشف عمق الأيديولوجيات العنصرية داخل تفكير هنري كيسنجر، ودوره في استمرار الحرب في أنجولا، ودعم نُظُم الحكم العنصرية في إفريقيا الجنوبية ككل؛ لحماية المصالح الأمريكية.
أما المقال الثاني فقد عمَّق هذه الرؤية بتقديم شواهد تاريخية صريحة وأكثر حسمًا قدّمها مُؤرّخ جنوب إفريقي بجامعة بريتوريا.
أما المقال الثالث فقد أثار نقاشًا جادًّا من زاوية مقابلة للمقالين الأولين، وهي مدى إفادة براجماتية كيسنجر مقابل عدم جدوى، أو حتى ضرر، وجود قيادة رمزية بحجم نيلسون مانديلا لم تَقُم –في رأي الكاتب- بأدوار كبيرة مقارنةً بكيسنجر.
وقدم المقال الرابع والأخير فكرة جديرة بالاهتمام؛ وهي صلة التأسيس الأكاديمي لكيسنجر بسياساته الإفريقية، لا سيما في مسألة الشرعية، وسلامة النظام العالمي وفق مبادئ القوة.
ورغم البعد التاريخي لهذه الأطروحات وجدلها وصلتها بشخصية وزير خارجية أسبق وأكاديمي نافذ احتفَى للتوّ بعيد ميلاده المائة؛ فإنها تُلقي ضوء كاشفًا ومهمًّا للغاية حول سبل صياغة السياسات الأمريكية تجاه القارة الإفريقية، وتظلّ مقبولة حتى الوقت الراهن في تفسير السلوك الأمريكي، وكذلك استجابة الدول الإفريقية نفسها للهيمنة الأمريكية كعلاقة عضوية لا يمكن الفصل معها بين الطبيعة المستغلة والقابلية لهذا الاستغلال لأسباب موضوعية.
كيسنجر وإفريقيا: إذكاء الحرب في أنجولا ودعم الأبارتهيد في جنوب إفريقيا([i])
كان جميع الرجال الجلوس إلى مأدبة غداء في فندق بودنماس Hotel Bodenmais في ألمانيا الغربية في 23 يونيو 1976م من البيض، رغم أن المسألة التي كانت قيد المناقشة هي الطريق نحو حكم الغالبية السوداء في روديسيا. وكان منهم جون فورستر رئيس وزراء جنوب إفريقيا العنصرية، ومعه سفراء ودبلوماسيون ومسؤولون أمنيون، وكان على رأس المأدبة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر الذي افتتح أعمالها بمزحة ذات نكهة عنصرية.
وكان هذا الغداء في خضم فترة عامين حاسمين عندما بدأ أهم دبلوماسي في العالم -والذي كان قد تجاهل إفريقيا أغلب فترة مكوثه في المنصب في عهد إدارتي فورد- في الاهتمام المفاجئ بالقارة. وسرعان ما تطرَّق -متسلِّحًا بمنطق خطير للحرب الباردة- إلى الأزمات المتعاقبة في إثيوبيا وأنجولا وروديسيا؛ سعيًا لتسوية سريعة لإنقاذ السمعة الأمريكية التي كانت قد بدأت في التبدُّد.
ومع دخول كيسنجر في عامه المائة؛ تجدَّد الاهتمام بتدخله في القارة الإفريقية، ليس فحسب بسبب الفشل المضاعَف الذي نتج عن مقاربة يسكنها الخداع والسرية والترويع، لكن بسبب العواقب بعيدة المدى والخطيرة لجهوده في إفريقيا الجنوبية على وجه الخصوص. وفي غضون سنوات ممتدة انخرط كيسنجر في تدخُّل ضبابي الطابع (وقتها على الأقل) في أنجولا على نحو أسهم في تعقيد الصراع الناشئ هناك عقب انسحاب البرتغال بعد وقوع انقلاب في لشبونة.
وأصبح كيسنجر أول وزير خارجية أمريكي يزور جنوب إفريقيا خلال ثلاثة عقود ممَّا وفَّر دعمًا لائقًا لنظام الأبارتهيد بعد مذبحة سويتو في العام 1976م عندما قتلت شرطة هذا النظام العشرات من أطفال المدارس وغيرهم خلال تظاهراتهم (في “الضاحية الإفريقية”).
وبينما كان من المقرر دَفْع رئيس وزراء روديسيا، إيان سميث، نحو إعلان قبوله حكم الأغلبية السوداء؛ فإن هذه المساعي فشلت على خلفية قناعة كيسنجر المشكوك فيها؛ عوضًا عن تعاطفه الواضح مع تجمُّعات الأقلية البيضاء التي تحكم روديسيا وجنوب إفريقيا بسياسات عنصرية.
وكانت نتيجة تدخلات كيسنجر -ضمن عوامل أخرى كما يشير المؤرخون- اندلاع حرب كبيرة في أنجولا، وإضافة مدة حياة أخرى لنظام الأبارتهيد.
وفي مذكرات كاشفة ومريرة، كتبها (2010م) دونالد إيسوم D. Easum الدبلوماسي الأمريكي والسفير السابق في نيجيريا، والذي عمل مساعدًا لوزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية؛ قدم تقييمًا مدهشًا لكيسنجر، في سياق وصف تجاهل الأخير واحتقاره للسفراء والدبلوماسيين الأفارقة في الأمم المتحدة خلال تقلُّده منصبه، “واستخفافه” disdain بإفريقيا السوداء.
وقد اكترث كيسنجر بالأحداث في أنجولا بعد وقوع انقلاب عسكري في البرتغال ضد ستادو نوفوEstado Novo في العام 1974م، ووقف النظام الجديد على الفور جميع الأعمال العسكرية في المستعمرة الإفريقية؛ مما قاد لاستقلالها في العام 1975م. وتخوُّفًا من إمكانية وصول الحركة الشعبية لتحرير أنجولا People’s Movement for the Liberation of Angola (MPLA) (الماركسية اللينينية)، إحدى الجماعات المقاتلة في الحرب الأهلية التي تلت الانقلاب، إلى السلطة بسهولة تامة، ومِن ثَم فتح الطريق أمام النفوذ السوفييتي؛ تحرَّك كيسنجر للانخراط في (شؤون) إفريقيا.
وفي مذكراته لخَّص “إيسوم” طموح كيسنجر: “كان مصمِّمًا على الاستيلاء على أنجولا فيما اعتبرها فرصة في وقتها لإظهار قوة أمريكا (وهنري كيسنجر)”. واستطرد: “لقد أيقن (كيسنجر) أن هزيمة الحركة الشعبية، التي اعتبرها سوفييتية التوجُّه، يمكن أن تُصلِح صورة الولايات المتحدة المتدهورة عقب أحداث فيتنام. علاوةً على ذلك فقد ظن أنه يمكنه القيام بذلك عَبْر عمل سري عن طريق وكالة الاستخبارات المركزية”.
ولاحظت المؤرخة نانسي ميتشيل (ومؤلفة كتاب جيمي كارتر في إفريقيا: العِرْق والحرب الباردة Jimmy Carter in Africa: Race and the Cold War): “تمتع كيسنجر بسمعة أنه عبقري استراتيجي، لكن إن درستم ما فعله كيسنجر في أنجولا وروديسيا؛ فإن ذلك سيُلقي ضوءًا على ضَعْف مجمل سياسته في إفريقيا، وكذلك في الشرق الأوسط وفيتنام. فقد أساء كيسنجر قراءة الوضع في أنجولا منذ البداية، ولم يتوقع على الإطلاق تدخل الكوبويون”.
وفيما يقترب من رؤية “إيسوم”؛ ترى ميتشيل أن فترة دبلوماسية كيسنجر في إفريقيا كانت “بالغة الانحطاط” very sordid والضرر، كما في جولته لمقابلة القادة الأفارقة في العام 1976م واجتماعه العاجل مع يوليوس نيريري وكينيث كاوندا رئيسي تنزانيا وزامبيا ضمن آخرين، والتي خلَّفت في مُجملها حقبةً من عدم الثقة في السياسات الأمريكية في القارة.
واتضحت من مقاربة كيسنجر عدم دراسته للقارة، وأن هذه المقاربة اتسمت بغلبة تصوراته العنصرية النمطية التي سادت في تلك الفترة، واحتقار مجمل العالم النامي، وتصوّره أنه سيحقق نصرًا سهلًا في أنجولا. “ولقد قال ذلك بالفعل عن نفسه عند تَواصُله مع مسؤول بالخارجية البريطانية أن مقاربته كانت خليطًا من الجهل والسذاجة”.
وكما تشير ميتشيل، فإنه فيما قضى كيسنجر ساعات في محادثات مع رئيسي روديسيا وجنوب إفريقيا البيض فإنه خلال جولته ولقاءاته مع قادة إفريقيا السود تجاهل بشكل واضح مقابلة قادة أفارقة بارزين (فيما تُعرَف بدول المواجهة مع النظم العنصرية تحديدًا) مثل الرئيس الموزمبيقي سامورا ماشيل، او كان غير واعٍ بأهمية آخرين مثل روبرت موجابي الذي كانت قوّاته تُهدّد نظام البيض في روديسيا نفسها، فيما قضى سبع دقائق فقط مع جوشوا نكومو منافس موجابي الرئيس حينذاك.
وثمة مسألة أخرى: تعاطف كيسنجر الداخلي مع حكم الأقلية البيضاء، والذي نظَر له من منظور المركزية الأوروبية. كما يرى بيتر فيل Peter Vale، المؤرخ بجامعة بريتوريا، في دراسةٍ نُشِرَت مؤخرًا؛ فإن سِجِلّ كيسنجر في إفريقيا كان “باهتًا”، وقال: إنه لم يسهم في إنهاء الاستعمار ولا إنهاء حكم الأقلية البيضاء في الإقليم. ورأى فيل أن اهتمام كيسنجر بإفريقيا الجنوبية في منتصف السبعينيات كان متكئًا على فكرة أن هذا التوازن سيُسهم -إن تم- استرداد مصالح الأقوياء. وفشل (كيسنجر) في فهم أن النضال من أجل العدالة كان يُغيِّر العالم والدبلوماسية في حد ذاتها.
كيسنجر عند المائة: كيف سيحكم عليه التاريخ؟([ii])
تجاوز هنري كيسنجر -الذي حفّز فنّ الدبلوماسية في السنوات الثمانية في الفترة من 1969م حتى 1977م- عمر المائة عام. وقد أشار باحثون راديكاليون إلى أساليب كيسنجر الوقحة؛ مثل تشجيع الانقلاب في شيلي (سبتمبر 1973)، ودَعَوْا لمساءلته بتهمة ارتكاب “جرائم حرب”. وفي الوقت نفسه فإن منجزات كيسنجر الدبلوماسية كانت مذهلة تمامًا. وفي ضوء عُمره وتأثيره الطويل في الشؤون العالمية كُتبت الكثير من “مقالات النعي المتوقعة”. وحيَّا بعضها دور كيسنجر في تشكيل علاقات الشرق- الغرب خلال عمله وزيرًا للخارجية الأمريكية. وكتب الكثير من المُعلّقين حول كيسنجر طوال عقود باعتباره “رجل دولة”.
تقليديًّا؛ فإن الدبلوماسية تتسم بالرصانة، وبكونها عملاً شبه خفيّ يلائم الرجال ذوي البذل الرمادية الذين يفهمون أمور الحرب والسلام العميقة. وقد حوّل كيسنجر الدبلوماسية إلى مجال للشهرة والاحتفاء، وبات العالم يترقب محطات تنقُّله.
وكانت منجزات كيسنجر مدهشة تمامًا، وتراوحت بين الاعتراف الأمريكي بالصين (1970/1972م) الذي كان حدثًا فارقًا، والانسحاب الأمريكي من فيتنام (1973م) وسياسة إدارة نيكسون بتهدئة العداء مع الاتحاد السوفييتي، مما قاد إلى سلسلة من محادثات حول خفض انتشار الأسلحة الاستراتيجية. وساعد كل ذلك على تأمين مكانة كيسنجر العالمية، لكنَّ سِجِلّه في الجنوب العالمي -لاسيما في إفريقيا- كان قاتمًا.
ومثَّلت ما عُرفت بالدبلوماسية المكوكية جزءًا لا يُستهان به من شهرة كيسنجر، وهي التي استُخدمت للمرة الأولى خلال حرب أكتوبر 1973م (يوم كيبور حسب كاتب المقال) في جهد للوساطة بين مصر وإسرائيل وعرف عن كيسنجر جولاته الكثيرة بين البلدين التي أضحت نبأ عالميًّا معروفًا.
وبعدها بعام كانت ثمة حاجة ملحة للدبلوماسية المكوكية في إفريقيا الجنوبية؛ لأنه كان واضحًا أن كيسنجر أساء قراءة مكان الإقليم في شؤون العالم وسياسته. وكان ذلك واضحًا من وثيقة سياسات سُرِّبت في العام 1969م حدَّدت مقاربة أمريكا تجاه الشؤون الإقليمية، وأوصت الوثيقة الولايات المتحدة باتباع سياسة “مساندة” لنُظُم الحكم البيضاء والاستعمارية من أجل حماية المصالح الاقتصادية (الاستراتيجية) الأمريكية.
ومن بين حياة حافلة لكيسنجر كدبلوماسي وسياسي بارز دوليًّا يجب النظر لتدخلاته في سياسات إفريقيا الجنوبية كفشل ذريع في إنهاء الاستعمار أو حكم الأقلية البيضاء في الإقليم.
حكم الأقلية البيضاء
من المعروف أن أطروحة كيسنجر للدكتوراه في جامعة هارفارد كانت حول دبلوماسية كونجرس فيينا Congress of Vienna (1814-1815)، وأكد أن “الشرعية” في الشؤون الدولية تقوم على إرساء توازن بين مصالح الدول القوية، وليس تعزيز العدالة. لكنَّ أوروبا القرن التاسع عشر ليست معيارًا لتوجيه السياسة في إفريقيا الجنوبية في القرن العشرين، عندما كانت شرعية الدول تتحقق بالتحرر وليس بدبلوماسية القوى العظمى.
وفي أبريل 1974م وضع انقلاب في لشبونة نهايةً للاستعمار البرتغالي في إفريقيا؛ مما كشف هشاشة حُكم البيض في روديسيا (زيمبابوي حاليًا)، وجنوب غرب إفريقيا (ناميبيا الآن) التي كانت خاضعة لجنوب إفريقيا. وعلى الرغم من أن ذلك كان غير معلوم وقتها؛ إلا أن الحقائق التي تكشَّفت مُؤخَّرًا تشير بوضوح إلى أن الأحداث في لشبونة قد ساعدت على اشتعال النار التي وصلت إلى جنوب إفريقيا (نفسها).
مانديلا وكيسنجر: أوجه التناقض([iii])
لطالما عُرف كيسنجر بفظاظته، وحتى باعتباره مجرم حرب. فيما بات نيلسون مانديلا أيقونة عالمية للنضال من أجل استرداد الحقوق. ويمكن صوغ السؤال على النحو التالي: هل يجب على القادة أن يكترثوا بالعدالة أكثر أم التركيز على الحلول (الواقعية)؟ لكن مقارنة مانديلا بكيسنجر ستكون أقل تجريدًا بشكل كبير.
ومع احتفال كسينجر بعامه المائة في 27 مايو (الفائت)، وتراجع مصداقية حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا لمستويات غير مسبوقة؛ فإن الحالتين تُمثلان مقارنةً ممتازةً لتقييم إيجابيات وسلبيات وضع العدالة كأولوية مقابل التوصل لحلول وأفكار مبتكرة غير مقيّدة بالأساس ideals.
بالتأكيد تمثل القِيَم أهمية كبيرة، ويمكن استغلالها على نحو متطرّف للغاية، ويبدو أن تلك كانت استجابة نُخَب المؤتمر الوطني الإفريقي لقيادة مانديلا الاستثنائية. وبدت سياسات إعادة التوزيع التي يقوم بها “المؤتمر” أكثر عدائية من أيّ وقت مضى. واستمرت تلك النُّخَب في السلطة منذ ثلاثة عقود تقريبًا فيما بدت توقُّعات مستويات المعيشة لأغلب شباب جنوب إفريقيا مرعبة.
لقد كان مانديلا ذا دور استثنائي، وربما كان بالغ الاستثنائية. وعندما اختار التقاعد كان يُتوقع منه مواصلة إرشادنا. وكما تحدث عن سياسات (الرئيس ثابو مبيكي) غير المناسبة بخصوص مرض الإيدز؛ توقع الكثيرون من مانديلا الجالس على كرسي متحرك أن يُقيّد اندفاع (الرئيس زوما) نحو الإفراط في التهاون.
إن الزعماء يرتكبون أخطاء، ولديهم بالتأكيد نجاحات. وبدلًا من تصنيفهم أخلاقيًّا فإن علينا التعلم من نجاحاتهم وأخطائهم. إن تأكيدنا على القِيَم خنَق مقدرتنا على تصميم الحلول.
إن محاولة التعلم من عمق شخصية مانديلا يكتسب سمة تطلعية وليست عملية، ولا يمكن تحديد تأثير مانديلا المستمر على أخلاقيات المؤتمر الوطني الإفريقي، وعلى النقيض من ذلك فإن كيسنجر علَّمنا استخدام سبل التركيز على الحلول قبل وبعد عمله في البيت الأبيض. وهناك قائمة طويلة من طلابه السابقين، وطلابهم اللاحقين، الذين أسهموا في تقديم الكثير من الآراء والتحليلات المهمة.
هنري كيسنجر في عامه المائة، لكن غير منعزل بعد([iv]).
يُعَدّ هنري كيسنجر من أهم ثلاث وزراء للخارجية الأمريكية في القرن العشرين (إلى جانب كل من دين جودرهام أتشيسون Dean G. Acheson وجورج مارشال George C Marshall )، وقد شكَّل الأخيران نموذجًا متميزًا على قدرة الخارجية الأمريكية على التصدي ومواجهة الاتحاد السوفييتي في ظل تصاعد الحرب الباردة، بينما كان كيسنجر مُنظِّرًا ومُطبِّقًا للسياسة الخارجية الأمريكية والدولية في الفترة بين حرب فيتنام وفترة التهدئة.
وبعد سيرة ذاتية مثيرة للغاية عقب الفرار من أوروبا مع أُسرته في أجواء الحرب العالمية الثانية؛ أعَدَّ كيسنجر أطروحته للماجستير بعنوان مهم “معنى التاريخ: تأملات حول شبنجلر وتويني وكانط”، والتي باتت عمود رؤيته للعالم.
وأنهى كيسنجر أطروحتيه للماجستير والدكتوراه في هارفارد. وتناول في الأخيرة فكرته عن الشرعية مؤكدًا أن هذا المفهوم يعني في السياق الدولي (ليس أكثر ولا أقل) من اتفاق دولي حول طبيعة الترتيبات التي يمكن تنفيذها، وتحديد الأهداف والسبل المسموح بها للسياسة الخارجية”. وبعبارة أخرى فإنَّ “النظام الدولي المقبول مِن قِبَل جميع القوى العالمية هو نظام شرعي بجميع المقاييس. وعلى النقيض من ذلك فإن أيّ نظام دوليّ غير مقبول مِن قِبَل القوى الكبرى في هذا العصر يُعدّ نظامًا “ثوريًّا”، ومِن ثَم فهو نظام خطير.
وفي إفريقيا فإن قيادة كيسنجر، كأبرز شخصية دبلوماسية في عصره، سعت لبناء علاقة أوثق مع موبوتو سيسي سيكو في زائير، وتبنّي موقف أكثر تسامحًا تجاه حكم البرتغال في إمبراطوريتها الإفريقية على الأرجح. وبشكل واسع، مقابل استمرارية القواعد الاستراتيجية في الآزروس Azores.
كما لعب كيسنجر دورًا خلفيًّا رئيسًا في الضغط على إيان سميث للتحرك نحو تحقيق حكم الأغلبية السوداء من منطلق رئيس؛ وهو الحفاظ على الاستقرار الأكبر في إفريقيا الجنوبية ومصالح الولايات المتحدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[i] –Peter Beaumont, Kissinger at 100: How his ‘sordid’ diplomacy in Africa fuelled war in Angola and prolonged apartheid, The Guardian, May 25, 2023 https://www.theguardian.com/global-development/2023/may/25/henry-kissinger-100-strategic-genius-or-damaging-diplomacy-held-back-africa
[ii] -Peter Vale, Henry Kissinger at 100: How will history judge him? Global Bar Magazine, May 27, 2023 https://globalbar.se/2023/05/henry-kissinger-at-100-how-will-history-judge-him/
[iii]– Shawn Hagedorn, Mandela and Kissinger contrasted, Politics Web, May 29, 2023 https://www.politicsweb.co.za/opinion/contrasting-mandela-and-kissinger
[iv] – J Brooks Spector, Henry Kissinger at 100 years of age — but never of solitude, Daily Maverick, June 2, 2023 https://www.msn.com/en-za/news/other/henry-kissinger-at-100-years-of-age-but-never-of-solitude/ar-AA1c0AIX