روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
رغم المدة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية السنغالية القادمة في فبراير 2024م، إلا أن الشارع السنغالي بدأ بالحراك والاضطراب، ففي الوقت الذي تحاول فيه المعارضة التعبير عن نفسها ومطالبها؛ يحاول الرئيس الحالي ماكي سال الترشح لولاية ثالثة..
هذا في وضع إقليمي مضطرب نوعًا ما، وانقلابات عسكرية متعاقبة في دول غرب إفريقيا المجاورة، ومحاولات فرنسا الحفاظ على موطئ قدم لها في غرب القارة، فماذا ينتظر السنغال وسط هذه الاضطرابات السياسية؟ وهل يستطيع البلد الغرب إفريقي الحفاظ على المسار الديمقراطي؟ وما مصير المعارضة السنغالية التي تنصب العداء لفرنسا؟
هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذه التحقيق..
في مَهَبّ الريح!
يتميز السنغال بالاستقرار السياسي والتداول السلمي للسلطة منذ سنوات، مقارنةً بكثيرٍ من الدول الإفريقية الأخرى، وهذا ما يجعل التجربة الديمقراطية القادمة محطّ أنظار وترقُّب للداخل والخارج.
وقد بدأ الاضطراب السياسي للانتخابات منذ مارس الماضي؛ حيث خرجت مظاهرات احتجاجية لمساندة زعيم المعارضة ورئيس ديوان المراجعة السنغالي السابق عثمان سونكو؛ الذي أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية التي ستنظم في 2024م، ووقعت مواجهات بين قوات الأمن والطلاب الذين أرادوا المشاركة في المسيرة.
وشملت المظاهرات العاصمة داكار ومدنًا داخلية أخرى مثل: تيس وسانت لويس وإقليم “كازامونس” المتمرد الواقع جنوبي السنغال، وقام المتظاهرون بالاعتداء على بعض المرافق التابعة للدولة وعلى مؤسسات فرنسية؛ للتعبير عن رفضهم لاستدعاء القضاء السنغالي للمعارض عثمان سونكو، وللمطالبة بتعزيز النظام الديمقراطي في البلاد وتمكين التداول السلس والسلمي للسلطة.
يعتقد الصحفي السنغالي، محمد الأمين، أن السنغال تُعدّ منارة للاستقرار في غرب إفريقيا؛ لأنها لم تشهد أي انقلاب عسكري منذ نيل الاستقلال عن فرنسا عام 1960م، لكنّ ملف الزعيم عثمان سونكو والترشح المحتمل للرئيس ماكي سال لولاية ثالثة هما السببان الرئيسيان لهذه التوترات في السنغال.
وأضاف “الأمين” لـ“قراءات إفريقية” إن هذه الاضطرابات تزيد المخاوف على تراجع الديمقراطية، كما قد تثير قلق المستثمرين بسبب المظاهرات السياسية التي تَستهدف المنشآت الخارجية، وخصوصًا التي تملكها فرنسا.
ويرى “الأمين” أن ظهور السّيد عثمان سونكو، زعيم حزب الوطنيين الأفارقة في السنغال، أدى إلى صحوة سياسية للشعب السنغالي؛ نظرًا لما يتّسم به خطابه السياسي بالثورية، ويحمل مشروعًا يهدف إلى الدفاع عن الإفريقانية.
وهو ما دفع الكثيرين إلى الاهتمام بخطابه ومشروعه السياسي، وأدَّى ذلك إلى فَوْزه بمقعد برلماني في الانتخابات التشريعية لعام 2017م، وحل المركز الثالث في رئاسيات عام 2019م.
وأردف الصحفي السنغالي أن تزايد شعبية سونكو على مستوى الشباب يُخيف النظام؛ الذي اعتبره منافسًا قويًّا يجب التخلص منه، بينما ترى المعارضة أن الاتهامات الأخيرة الموجهة لـ “سونكو” هي مؤامرة حكومية لإقصاء سونكو من المشهد السياسي، ومنعه من الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ماكي سال والولاية الثالثة
تشهد السنغال جدلًا سياسيًّا ودستوريًّا، حول أحقية الرئيس الحالي ماكي سال في الترشح لولاية ثالثة تمتد حتى 2029م، ولم يعلن الرئيس سال -الذي يتولى السلطة منذ 2012م- عزمه تقديم أوراق ترشحه، لكنه رفض الادعاء بأن ترشحه لولاية ثالثة أمر غير دستوري.
وينص الدستور، بعد تعديل عام 2016م، على أن مدة الولاية الرئاسية خمس سنوات وليست سبع سنوات، ولا يحق ممارسة أكثر من ولايتين متتاليتين، وبينما كانت ولاية الرئيس سال الأولى لمدة 7 أعوام، فقد فاز في انتخابات 2019م بولاية ثانية مدتها 5 أعوام.
ومع ذلك يجادل ماكي سال أنه تمت استشارة المجلس الدستوري؛ الذي اعتبر أن ولايته الأولى لا تدخل في التعديل الدستوري، قائلًا في تصريح سابق: إن “هذا التعديل يلغي بشكل فعلي ولايته الأولى”، بحيث تبدأ فترتان جديدتان.
في هذا الصدد يشير الأكاديمي والباحث السنغالي المتخصص في الشأن الإفريقي، عبد الرحمن كان، إلى إن الرئيس السنغالي ماكي سال بتصريحاته الأخيرة في إحدى الصحف الفرنسية أبدى اهتمامًا كبيرًا في المغامرة بالترشّح لولاية ثالثة؛ لاستكمال المشاريع الكبيرة التي تعهَّدها، خاصةً فيما يتعلق بالاستثمارات الدولية واهتمامه بمواصلة سبر أغوار الغاز الطبيعي.
وأضاف عبد الرحمن في حديثه لـ“قراءات إفريقية”: إن النقاش عن صلاحية الولاية الثالثة يُعدّ الضجّة السياسية الأكثر تداولاً في المجتمع السنغالي بين السلطة والمعارضة، لمدى أهمية هذا الملف للشعب السنغاليّ ودوره الحاسم في الانتخابات السنغالية الرئاسية لعام 2024م.
وأشار أن مؤيدو الرئيس يتطلّعون إلى إعطائه فرصة أخرى لاعتبارات سياسية، في حين يعمل معارضوه على منعه من التّرشُّح تطبيقًا للقانون، وهذا يحمل في طياته الكثير من المخاطر التي قد تؤدّي إلى اضطراب الشّارع السنغاليّ، ليس فقط لرغبة الرئيس للترشّح لولاية ثالثة، بل لكونه يسعى لاضطهاد زعامة المعارضة وإبعادها من حلبة السباق الرئاسي؛ الأمر الذي قد يسبّب تعطيل الأعمال الإدارية للدولة.
ويرى “عبد الرحمن” أن الرئيس ماكي سال يواجه جملةً من التحديات؛ أبرزها التحدّي الدستوري؛ حيث يصعب عليه إقناع الشعب السنغالي بشرعيّة ترشحه للولاية الثالثة؛ لأنه قاوَم سابقًا الرئيس السابق عبد الله واد؛ حين أراد الترشح للولاية الثالثة، وقام بإصلاحات دستورية للحدّ من فوضى الولاية الثالثة.
وأضاف الأكاديمي السنغالي أن التحدّي السياسيّ والأمنيّ يتمثل في مدى تمسّك الرئيس سال بمبادئ الديمقراطية وعدم تهديد النظام السياسي السنغاليّ؛ حيث تتميز السنغال بالتداول السلمي للسلطة والاستقرار الديمقراطي، ويلزم تخطّيه لهذا التحدّي تنازله عن خطة الترشّح، أو تضعيفه جبهات المعارضة بشكل يساهم في إسكات عدد كبير من معارضيه، الأمر الذي يتطلب العديد من الخطوات الأمنية لمراقبة ممتلكات الدولة واستقرارها دون انتهاك حرمات المواطنين.
بينما يكمن التحدّي الاقتصادي بحسب “عبد الرحمن” في المشاريع التنموية المهدّدة بالتدمير من المعارضة الشّرسة، إذا قرر سال الترشّح للولاية الثالثة مع إقصاء زعيم المعارضة عثمان سونكو من سباق الانتخابات الرئاسية.
وأضاف أن التمكّن من حماية مشاكل التضخم الاقتصاديّ وغلاء الأسعار في فترة وجيزة، وإعادة الحوار الديمقراطيّ مع توفير مساحات للتنازل في بعض الشؤون السياسية، ربما يساهم ذلك في تخفيف التحدي الاقتصادي مع ضمان استدامة المشاريع التنموية.
وأكد عبد الرحمن أن نجاح الرئيس ماكي سال في التّرشح للولاية الثالثة يتطلب إقناع الشعب بشرعيّة الترشّح عبر المجلس الدستوري أو عن طريق التلاعب بالرأي العام، وستكون المبررات المذكورة مدخلًا لعديد من المخاطر التي لها تداعيات سلبية على المستوى الإقليمي.
المعارضة.. بين المطرقة والسندان!
على الرغم من أنه يُنظَر إلى السنغال على أنها واحدة من الدول الديمقراطية؛ إلا أن الاحتجاجات والعنف السياسي التي هزَّت البلاد مؤخرًا نتج عنها قمع منهجي للمعارضة، واعتقال للمعارضين السياسيين، وخضوع المظاهرات للرقابة الصارمة.
كما تبغي المعارضة طرد الحلفاء التقليديين للسنغال وفي مقدمتهم فرنسا؛ التي أصبحت لا تحظى باحترام كبير مِن قِبَل طبقة الشباب، وتريد تبديل عملة الفرنك الفرنسي -المتعامل بها في سبع دول في غرب إفريقيا- بعملة وطنية ومحلية، حتى يتخلص الاقتصاد السنغالي من التبعية الفرنسية.
وظهر ذلك في خطابات عثمان سونكو، الذي لم يكفَّ عن القول بأنه يريد استرجاع السيادة الحقيقية لبلده ونزعه من مخالب المستثمرين الغربيين؛ الذين يهتمون فقط بمصالحهم الخاصة. وهذا يثير تساؤلات عما إذا كانت هذه بداية خروج السنغال من عباءة فرنسا.
في هذا الصدد يقول الأكاديمي السنغالي، عبد الرحمن كان: إن السنغال برزت بها معارضة حديثة تحمل خطابات تجديدية في السياسة، وتنتهج الراديكالية في المعارضة، وتحاول إثارة الملفات الساخنة في اقتصاد الدولة وخططها المستقبلية في إنتاج الغاز الطبيعي، ومقاومة بقايا آثار الاستعمار.
وأضاف عبد الرحمن أن المعارضة جعلت محاربة عملة الفرنك من أولوياتها؛ نظرًا لكونه قائمًا على سياسات اقتصاديَّة انتهازية في نهب ثروات الدّولة، وامتدادًا لهذا الخطاب تسعى المعارضة لطرح مشاريع تغيير العملة، واستبدالها بأخرى تكون لها الصبغة الوطنية لحماية ثروة الدّولة وتنمية مشاريعها الاقتصادية.
وبحسب عبد الرحمن فإن هذا قد يكون خطوة للخروج من عباءة فرنسا؛ إلا أن انعكاسات الاحتلال الفرنسي على الإدارة العامة لدولة السنغال بقيت آثارها متجذرة في هوية الإنسان السنغالي؛ الأمر الذي يتطلب المزيد من الجرأة في تغيير الأنماط التفكيرية والسلوكية للسنغاليين، والتي بدَوْرها تكون قادرة ومُشجّعة للإقدام على الخطوات الإجرائية في استقلالية العملة والخروج من التبعية الاقتصادية.
انتخابات محلية.. وتفاعلات إقليمية
وسط هذه التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي يعيشها السنغال، يبرز الوضع الإقليمي في غرب إفريقيا وتأثره بالانتخابات السنغالية المرتقبة.
من جهته يقول الحقوقي الغيني، د. محمد مغاسوبا: إن منطقة غرب إفريقيا تتميز بتشابك الروابط الاجتماعية وتقارب النظم السياسية، مما يجعل عملية التأثر والتأثير علاقة حتمية، وأضاف أن مكانة السنغال في المحيط الإقليمي وريادتها على المستوى السياسي والاقتصادي بالنسبة للدول المجاورة؛ قد تجعل أوضاعها السياسية ذات تأثير مهم.
وأضاف “مغاسوبا” لـ “قراءات إفريقية” قائلًا: إن نجاح الرئيس السنغالي الحالي أو فشله في تمرير مشروعه السياسي، وهو الترشح لولاية ثالثة في الانتخابات القادمة، قد يؤثر على موقف بعض نظرائه من الرؤساء في المنطقة، فبقاء ماكي سال في السلطة لفترة طويلة تعني بقاء الأوضاع المحلية والإقليمية كما هي عليه الآن دون تغيير جذري، وهذا ما تتطلع إليه الحكومة الفرنسية.
وقال “مغاسوبا”: إنه في حالة تغيُّر رأس السلطة في السنغال، فهذا يعني أن بعض الاحزاب السياسية في دول الجوار سوف يفقدون ظهيرًا سياسيًّا في الانتخابات المزمع تنظيمها في تلك البلاد.
وفي هذا السياق أشار “مغاسوبا” إلى الأزمة التي اندلعت بين غينيا والسنغال، وأدت إلى إغلاق الحدود بين البلدين، على خلفية اتهام الرئيس الغيني السابق ألفا كوندي للسلطات السنغالية بدعمها زعيم المعارضة الغينية سيلو دالين جالو؛ باعتبار الأخير ينتمي إلى قبيلة الرئيس ماكي سال.
وعلى المستوى الأمني ومحاربة الإرهاب في المنطقة، يعتقد “مغاسوبا” أن السلطات السنغالية الحالية تدور في فلك السياسات الأمنية الفرنسية؛ إذ تعد السنغال وكوت ديفوار من الدول التي تُشجّع علنًا التعاون الأمني والعسكري مع فرنسا، سواء فيما يتعلق بوجود القواعد العسكرية في المنطقة أو انتقاد الدول المتعاونة عسكريًّا مع روسيا مثل مالي وبوركينا فاسو، وعليه فإن مجيء رئيس آخر، ممن يطالبون بمراجعات شاملة للدور الفرنسي لتعزيز السيادة الوطنية، يعني زيادة في قائمة الدول الرافضة للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة.
وعن الجانب الاقتصادي يضيف “مغاسوبا” أن استمرار الرئيس ماكي سال في السلطة أو مجيء رئيس جديد مثل عثمان سونكو، سيؤثر سلبًا أو إيجابًا على مصالح فرنسا في المنطقة، خاصةً ما يتعلق بالعملة الموحدة “الفرنك سيفا”.
ماذا ينتظر السنغال؟
هذا وتقف السنغال في مفترق طرق، وتبرز تطلعات الشعب السنغالي للمرحلة القادمة في ظل تردّي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يعتقد “مغاسوبا” أن الشعب السنغالي ينتظر من رئيسه القادم تعزيز الوحدة الوطنية وتماسك البنية الاجتماعية؛ لأن الفترة الأخيرة شهدت توترات سياسية واجتماعية أثرت سلبًا على الدولة، كما يتطلعون إلى توفير فرص عمل للشباب ورفع سقف للحريات الفردية والسياسية.
وأضاف الحقوقي الغيني أنه في ظل تنامي ظاهرة العداء لفرنسا في القارة، يتوقع غالبية السنغاليين من رئيسهم القادم أن يكون قادرًا على حماية السيادة الوطنية والمصالح الاقتصادية في مواجهة فرنسا، التي ما زالت حتى اللحظة تهيمن على حصة مهمة من الثروات الطبيعية والمشاريع الاستثمارية في السنغال دون مقابل مناسب.
وأردف أن توقعات الناخبين من الرئيس الجديد تشمل إبعاد القضاء السنغالي من المشهد السياسي، مع فصل تام بين السلطات الثلاث، واحترام أحكام الدستور، وفتح تحقيقات مالية وقضائية شفافة ضد الوزراء المتورطين في الفساد المالي والإداري في ظل النظام الحالي.
وأخيرًا.. فإن الحرص على المسار الديمقراطي في السنغال هو ما سيحمي البلاد من الاضطرابات السياسية والأمنية المتوقعة، كما سيساهم في مزيد من الاستقرار في منطقة غرب إفريقيا التي تعاني من الانقلابات العسكرية والتهديدات الأمنية، فهل تُسطر السنغال تجربة ديمقراطية جديدة في القارة الإفريقية؟ أم للسياسة رأي آخر؟