مطر محمد ماح
باحث من صوماليلاند – متخصص في شؤون الشرق الإفريقي
لاسوعانود هي العاصمة الإدارية لمنطقة سول في أرض الصومال بشكل عام، وفي صوماليلاند بشكل الخاص، التي تطالب بالاستقلال عن جمهورية الصوماليلاند منذ أن أعلنت انفصالها عن الجنوب ١٩٩١م، وتقع على الحدود بين إقليمي بونت لاند وأرض الصوماليلاند في مساحة قدرها 11,240 كيلو مترًا مربعًا، ويبلغ عدد سكانها 108 آلاف نسمة.
تقطن لاسوعانود عشائر دولباهنتي ووارسنقلي اللتان تنتميان إلى قبيلة الدارود التي تسيطر على إقليم بونت لاند، ومنذ بداية نزوع أرض الصومال إلى الاستقلال حاولت عشائر إسحاق المسيطرة على أرض الصومال أن تطمئن الأقليات في الإقليم عبر عقد مصالحات واتفاقيات معها، لكن ظلت الميول ورغبة الانتماء للصومال قائمة.
وعلى الرغم من أن صوماليلاند غير معترف بها دوليًّا؛ إلا أنها حصلت على سمعة دولية جيدة بسبب تحقيقها للسلام والحكم الديمقراطي وتوفير الاستقرار الأمني الذي يسود البلد منذ أن أعلن انفصاله عن الجنوب عام ١٩٩١م؛ إلا أن هذا الاستقرار كان يشوبه نوع من الحذر والخوف على السقوط مرة أخرى في الخلافات القبلية.
تعد مدينة لاسوعانود مدينة مختلفة عن باقي مدن صوماليلاند بسبب موقعها الجغرافي وطبيعة الوضع الإنساني فيها الذي يميل إلى الجفاف، وقلة التعليم، خاصة من الطرفين الحكومي والعشائر المستوطنة في المدينة، والتفاخر بموروث الأجداد الذين حاربوا ضد المستعمر الإنجليزي وطردوه من البلاد.
قامت حرب قبلية في الإقليم الموصوف سلفًا؛ وأصبح كل طرف يوجّه للآخر الاتهامات؛ فالحكومة من جانب زعمت أن أطرافًا خارجية تُموِّل الحرب، بينما من جانبها زعمت العشائر المقاتلة في المدينة أنها تسعى من أجل نَيْل حق تقرير المصير، وتسعى أيضًا من أجل توفير مستقبل سياسي أفضل من السابق؛ حيث تم تهميشهم سياسيًّا من جانب الحكومة في صوماليلاند.
مهما اختلفت الآراء والتهم خلف هذا الصراع المحتدم بين الجانبين؛ إلا أن القارئ لا يفهم حقيقة ما يحصل على أرض الواقع دون معرفة التطور الذي حصل في صوماليلاند، خاصة من جانبي العلاقات الخارجية والتمويل الاقتصادي. فالأول خلق حالة من القلق والخوف لدى العشائر في مدينة لاسوعانود؛ حيث تساءل الناس: كيف يكون حال الإقليم في حالة حصلت صوماليلاند على اعتراف دولي؟ والعنصر الآخر من جانبه خلق تكتلات سياسية متنافسة داخل البلد إلى أن وصل الأمر إلى دعوة بعض الأطراف لضرورة الاتحاد مرة أخرى مع صوماليلاند.
محادثات علي خليف مع حكومات صوماليلاند المختلفة:
يُعد علي خليف من أبرز السياسيين والمناضلين لقبيلة ”ظولبهنتي”؛ حيث حصَّل تعليمًا خارجيًّا في أحد البلدان الغربية، وشغل أيضًا مناصب سياسية مختلفة في حكومة الرئيس السابق سياد بري.
بعدما استولت حكومة صوماليلاند على إقليم لاسوعانود بشكل شبه كامل، وخروج كل القوات التابعة لحكومة بونتلاند في عام ٢٠٠٧م؛ تم تأسيس ما يسمى بدولة ”خاتومو” بزعامة علي خليف وبعض الأعضاء من سياسي القبيلة؛ حيث حاول علي خليف الدخول بمفاوضات مختلفة مع الحكومات التي حكمت البلاد كممثل لدولة خاتومو، وفيما يلي بعض أهم البنود والاتفاقيات التي تمَّت بين الجانبين:
١- تحقيق استقرار أمني واسع في الإقليم.
٢- تطوير البنية التحتية للإقليم.
٣- محاربة كل من يدعو إلى تقسيم البلاد.
٤- توفير قسمة عادلة لثروات البلد.
٥- إجراء تقسيم عادل للمناصب السياسية.
٦- تعديل الدستور، وإعادة إجراء الانتخابات مرة أخرى.
هذه هي أهم البنود التي كان يسعى علي خليف للمصالحة مع الحكومة حولها ممثلاً عن حكومة خاتومو. وكانت الاتفاقية تتكون من ١٢ بندًا، تم تحقيق معظمها من جانب الحكومة؛ إلا أن البند الأهم فيها لم يلقَ ترحيبًا من جانب الحكومة، ولذلك لم يتم تحقيقه، وهو البند السادس من الاتفاقية؛ حيث زعمت الحكومة صعوبة الأمر، وعدم موافقة قبيلة ظولبهنتي على تعديل الدستور، وهو الأمر الذي رأت فيه ”خاتومو” عدم رغبة الحكومة في تحقيق هذه المطالب.
وقد أكد بعض المختصين في دراسة الخلافات أن عدم تحقيق هذه المطالب على أرض الواقع كان الشرارة الأولى لشعور بعض زعماء العشائر في مدينة لاسوعانود بأنهم لا قيمة لهم في نظام صوماليلاند، وأن التهميش السياسي لا يزال يُمارَس في حقهم.
بداية خلافات لاسوعانود:
بدأت الخلافات المباشرة بين الحكومة في صوماليلاند من جانب، وبين العشائر المختلفة في مدينة لاسوعانود في ٢٦ ديسمبر٢٠٢٢م عندما تم اغتيال السياسي الشاب الذي كان ينتمي إلى أحد أحزاب المعارضة في حكومة صوماليلاند ”عبد الفتاح عبدالله هدراوي”؛ حيث تظاهر بعض الشباب في الأيام التالية لذلك الحادث. وتم قتل عدد من هؤلاء المتظاهرين من جانب القوات المسلحة بالرصاص الحي، وتم قتل حارس شخصيّ لأحد تجار الإقليم؛ مما دعا لضرورة سحب كل القوات التابعة للحكومة من الإقليم في محاولة للسيطرة على الأوضاع من جانب الحكومة.
تكونت بعد ذلك لجنة مكونة من زعماء العشائر، اتفقوا على الدعوة إلى حوار شامل لتحديد مستقبل الإقليم السياسي، وتحقيق مطالب الشعب التي طال انتظارها، وفي السادس من شهر فبراير حاول هؤلاء الزعماء الإعلان عن موقفهم من الحكومة في صوماليلاند. مما دفع الحكومة لاستباق هذا الإعلان، بشَنّ حرب شاملة على الإقليم؛ لكن كان ثلثا سكان الإقليم مسلحًا، وأيدت بعض العشائر المجاورة الإقليم بكل ما يحتاجه من العتاد العسكري مع تحريض لمحاربة الظلم.
ورغم معاهدات وقف إطلاق النار بين الطرفين؛ إلا أنه لم يتحقق شيء على أرض الواقع، وكانت الخسائر فادحة للطرفين، خاصةً في الإقليم؛ حيث تم تدمير البنية التحتية، وتوقفت إمدادات المياه مع انقطاع الكهرباء. وسط ما يقارب ١٥٥ قتيلاً و٦٠٠ جريح، وتم تهجير الآلاف من منازلهم.
جدير بالذكر أن اغتيال عبد الفتاح هدراوي لم يكن حدثًا عرضيًّا يمكن التغافل عنه، ولكنه كان آخر حلقة لسلسلة الاغتيالات التي طالت الإقليم، بدون فتح تحقيق عادل من جانب الحكومة في صوماليلاند؛ على حد تعبير قادة الإقليم وزعماء العشائر.
الجهود المبذولة لوقف القتال:
في١٠/٢/٢٠٢٣م تم التوصل لاتفاق لوقف القتال، إلا أن توجّه العشائر وتأكيدها مرة أخرى على رغبتها بالانضمام إلى الحكومة المركزية الصومالية؛ أدى لاشتعال القتال من جديد، كما بذل الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي محاولات للتقريب بين الحكومة الفيدرالية في مقديشو وحكومة أرض الصومال، إلا أن المحاولة لم يحالفها الحظ.
كما زار وفد من بعثة السفارة الأمريكية في مقديشو، مدينة هرجيسا بأرض الصومال؛ سعيًا وراء إيقاف الحرب في لاسوعانود، مطالبًا الأطراف بوقف فوري غير مشروط للقتال، وناقش فرص فتح الحوار بين الحكومة الفدرالية في مقديشو وأرض الصومال.
كما استقبل الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود وفودًا من النرويج وتركيا تتوسط بين الصومال وإدارة أرض الصومال. ولكن كلّ هذه الجهود الحثيثة لم تنجح من أجل فتح حوار بين الطرفين، والجلوس على طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة، وهو الأمر الذي لن تتنازل عنه العشائر المقاتلة في مدينة لاسوعانود.
موقف الحكومة المركزية من القتال:
بعد اندلاع الحرب بين العشائر التي تقطن مدينة لاسوعانود وبين حكومة صوماليلاند؛ كان موقف الحكومة المركزية واضحًا وجليًّا بالنسبة للمتابعين؛ حيث تحدث الرئيس حسن شيخ محمود بشكل علني أن موقفه من القتال هو عدم التحيز لأيّ طرف كان، وأن الإقليم يقع على الحدود التي رسمها المستعمر على ولاية صوماليلاند التي تبحث عن الاعتراف الدولي؛ رغم تأكيد الحكومة المركزية أن هذا الأمر لن يحدث في المستقبل القريب. وأن حكومة صوماليلاند لها كامل الأهلية من أجل إخماد هذه الحرب دون تدخل من أيّ طرف آخر.
بعض الآثار الناتجة عن الاقتتال:
١- خروج الأوضاع الإنسانية عن السيطرة بشكل خطير:
حيث تمثل استمرارية الاقتتال في أرض الصومال تهديدًا مباشرًا لمجمل الأوضاع الإنسانية، التي شهدت تدهورًا كبيرًا خلال الفترة الأخيرة؛ وذلك لارتفاع درجات انعدام الأمن الغذائي وتوقف كل الخدمات الأساسية، بما في ذلك المستشفيات ومرافق المياه والكهرباء والصرف الصحي؛ نظرًا لإصابتها بأضرار بالغة.
وقد أكدت تقارير الأمم المتحدة أن أكثر المهاجرين الذين نزحوا من أرض الصومال من النساء والأطفال، واستقروا مؤقتًا في الصومال فيما يزيد عن (13) موقعًا في بلدات “بوك”، و”جلهامور” و”دانوت” و”وريداس” في منطقة “دولو”. وقد أدى ارتفاع أعداد النازحين جراء الصراع بوجه عام، إلى الضغط على مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة، وهو ما ترتَّب عليه تنامي الضغط على الموارد الشحيحة، وانتشار الأمراض المرتبطة بالمياه؛ نتيجة الظروف غير الصحية في الملاجئ المؤقتة.
٢- إغلاق باب المفاوضات من جديد:
قد تؤدي حالة عدم استقرار الأوضاع في أرض الصومال إلى عرقلة مسار التفاوض مع الحكومة المركزية. وعلى الرغم من أن هذا المسار يؤيده الرئيس الصومالي “حسن شيخ محمود” ورئيس وزرائه “حمزة عبدي بري”، اللذان وجَّها دعوة للقيادة السياسية والمجتمعية في أرض الصومال للانخراط في الحوار السياسي، والحفاظ على الاستقرار والسلام والوحدة، إلا أن ذلك لم يصادفه في الجهة المقابلة تبلور رغبة حقيقية من قِبل أرض الصومال؛ حيث تجاهلت مؤتمرات المصالحة الصومالية المختلفة لسنوات عديدة بعد إعلان الاستقلال، والتي عُقِدَ أولها في جيبوتي في عام 1991م، وتولَّت تركيا رعايتها لاحقًا في إطار اهتمامها المتزايد بالصومال.
٣- أعضاء جماعات العنف ربما يجدون ميدانًا جديدًا في مدينة لاسوعانود:
يمكن أن تستغل حركة الشباب استمرار حالة عدم الاستقرار والانقسامات العشائرية والصراع على الموارد في أرض الصومال لتعزيز انتشارها؛ حيث ساهم عدم تغلغل الحركة داخل هذه المنطقة في تحقيق الاستقرار خلال العقود الثلاثة الماضية، كما أن استمرار هذه الظروف سيؤثر بلا شك على الحرب التي تقودها الحكومة المركزية الصومالية ضد الحركة.
٤- تبديد أحلام الحصول على اعتراف دولي بالحكومة في صوماليلاند:
يمكن أن يؤثر استمرار حالة عدم الاستقرار في أرض الصومال في الفترة المقبلة، تأثيرًا سلبيًّا على مساعيها للحصول على الاعتراف الدولي، وخاصةً في ضوء احتمالات تغيُّر الصورة الإيجابية التي تحظى بها من جانب بعض الأطراف الخارجية، التي تعتبرها جزيرة للسلام والديمقراطية والاستقرار في منطقة إقليمية تشهد اضطرابات على مدار أكثر من ثلاثة عقود.
ولعل هذا هو ما دفع الدول الغربية إلى تدشين العديد من المبادرات المختلفة في مجال البنية التحتية والتعاون التجاري والعسكري وزيادة وجودها الدبلوماسي. فعلى سبيل المثال: تعهدت المملكة المتحدة والدنمارك وهولندا والنرويج بتقديم نحو (38) مليون دولار لمشروعات البنية التحتية في أرض الصومال. وعادةً ما تنظر أرض الصومال إلى مجمل هذه الاستثمارات الخارجية على أنها بمنزلة مبادرة للاعتراف بالدولة.
والأمر الذي يزيد الطين بلة هو إدراك زعماء العشائر للأثر الذي من الممكن أن يخلفه هذا الصراع ليس فقط من جانبهم، وإنما أيضًا من جانب الحكومة في صوماليلاند.
خلاصة الأمر:
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتفق اثنان على ماهية الأسباب التي أدت لإشعال فتيل الحرب في مدينة لاسوعانود، وكل الاحتمالات لم تكن تشير إلى حرب مثل هذه التي نشهدها حاليًا، وهذا كان بسبب أن الحكومة نظرت للأمر للوهلة الأولى على أنه مجرد تمرد بسيط لن يستمر طويلاً، وأن كل ما يحتاجه حل الأمر هو حصار عسكري شامل للمدينة؛ إلا أن الدعم الذي وجدته العشائر من الجيران كان له رأي آخر، وهو الأمر الذي كاد أن يحول المواجهة إلى حرب قبلية تكون لها مآلات وخيمة على المنطقة ككل.
هذا التصعيد والاستعداد الذي يتزايد كل يوم في داخل الإقليم، مع غياب أي مَسَاعٍ للوساطة بين الطرفين حتى من جانب العلماء والمثقفين الصوماليين، وغياب طرف خارجي آخر محايد، والعداوة التي خلَّفها بين القبائل المتجاورة؛ جعلت التنبؤ بعواقب هذا الاقتتال مستحيلةً؛ إلا أننا نرجو من الله أن يرزق الطرفين الحكمة حتى ترجع الأمور إلى نصابها، ولا تترك مجالاً من أجل خلق يَمَن جديد في المنطقة.