مهاب عادل
باحث بمركز الأهرام للدراسات
استهدفت إسرائيل خلال العقود الماضية، عبر جهود حثيثة، كسر حالة العزلة التي فُرِضَت عليها خاصةً في الدائرة العربية والإفريقية؛ حيث كان لهذه العزلة تأثيرها السلبي على موقف الدعم التصويتي الذي تحتاجه تل أبيب في المحافل الدولية ضد القرارات الدولية بإدانة انتهاكاتها ضد الفلسطينيين.
وسعت إسرائيل إلى تحقيق ذلك من خلال عدة مسارات؛ ارتكزت على تعزيز قدراتها وميزاتها النوعية التي يمكن تقديمها كمحفّزات لكسب شركاء جدد. فمثلما فعل جيل الآباء المُؤسِّسين مثل ديفيد بن غوريون، الذي أقام روابط سرية مع دول ومنظمات تقع خارج حلقة الدول العربية، في جميع أنحاء الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا. وأطلق على هذا النهج اسم “عقيدة المحيط“؛ حيث كان تقديم أسلحة متطورة عاملاً أساسيًّا في إقامة تلك الروابط([1]).
يسعى جيل الأبناء لسلوك ذات التوجه، ولكن بآليات وطرق مختلفة؛ فمع ترسخ مكانة إسرائيل ضمن نادي كبار مصدّري الأسلحة في العالم، ظهر نوع مختلف من صناعة الأسلحة في إسرائيل؛ حيث بدأ قدامى المحاربين في الوحدة 8200 -المعادلة الإسرائيلية لوكالة الأمن القومي– في التدفق على الشركات الناشئة السرية في القطاع الخاص؛ مما أدّى إلى ظهور صناعة أمن سيبراني ضخمة([2]).
وهذه الأسلحة السيبرانية غيّرت بدورها العلاقات الدولية بشكل أعمق من أيّ تقدم منذ ظهور القنبلة الذرية. نظرًا لميزاتها النسبية فهي رخيصة، ويمكن توزيعها بسهولة وكذلك نشرها دون عواقب للمهاجم. وبالتالي يُغيّر انتشارها بشكل جذري طبيعة علاقات الدولة، وهو ما أدركته تل أبيب منذ فترة طويلة، وبدأت في تطبيقه عبر دبلوماسيتها في الدوائر الجغرافية المختلفة.
وظهرت تجليات هذا التطور في الحضور المتزايد لتل أبيب في القارة السمراء، وانعكس ذلك على مستويين؛ المستوى المؤسسي متعدد الأطراف، من ناحية اكتسابها صفة عضو مراقب في المنظمة القارية (الاتحاد الإفريقي). والمستوى الثنائي؛ حيث شهدت الفترة الماضية مرحلة تأسيسية جديدة لمسار دبلوماسي ثنائي بين تل أبيب وعدد من الدول الإفريقية التي كانت تقود تيار الممانعة والرفض لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ويأتي في مقدمتها دولة السودان صاحبة “اللاءات الثلاثة”.
وبالتالي، تُنشئ تلك المعطيات الحاجة لفهم طبيعة الدور الجديد لتل أبيب في القارة السمراء في إطار ما يُعرَف بـ”الدبلوماسية السيبرانية”، وبيان إلى أيّ مدًى ساهم ذلك في إحداث اختراق في تيار المعارضة التقليدي لدورها في القارة، وكذا بيان التحديات الناشئة حول هذا النمط الجديد للدبلوماسية الإسرائيلية.
أولاً: الدبلوماسية السيبرانية.. المفهوم والأدوات
شهد مفهوم الدبلوماسية بمعناها التقليدي، العديد من التغيرات المرتبطة بمجالات عملها نتيجة تحولات السياق الدولي وقضايا العمل الدبلوماسي، التي لم تعد تنحصر فقط في الجانب الوظيفي لإدارة العلاقات الرسمية بين الدول؛ حيث اتَّسع المفهوم ليشمل أنماطًا جديدة كالدبلوماسية البيئية والإنسانية.. وغيرها.
ومع تزايد التحول الرقمي للمجتمعات، أصبح الفضاء السيبراني نقطة محورية في السياسة الخارجية والأمنية لهذه المجتمعات؛ حيث إنَّ التحديات والتهديدات في هذا المجال أصبحت عالمية ومتنامية باستمرار، وهو ما فرض معه ضرورة الحوار الدولي حول قضايا الفضاء السيبراني في إطار ما بات يُعرَف بـ”الدبلوماسية السيبرانية”.
وقد فرضت الطبيعة غير الملموسة والمتغيرة باستمرار للفضاء السيبراني، والتي اجتذبت مزيجًا من الجهات الفاعلة ذات الدوافع المعيارية والأيديولوجية المختلفة، الحاجة إلى مناهج دبلوماسية متماسكة لأصحاب المصلحة المتعدِّدين؛ بحيث تكون مبتكرة ومرنة وقابلة للتكيف. وهو ما يجعل مفهوم الدبلوماسية السيبرانية بمثابة جبهة ناشئة لتطوير التعاون وقابلية التشغيل البيني في هذا الفضاء المتنازع عليه([3]).
وفيما يتعلق بجذور المفهوم، يعد مفهوم “الدبلوماسية السيبرانية” حديثًا نسبيًّا؛ حيث بدأ ظهوره في الحقل الأكاديمي متزامنًا مع التطور التكنولوجي والرقمي الهائل في مطلع القرن الحادي والعشرين، وجاء تركيز الدراسات المبكّرة في هذا الصدد على التحول الرقمي الأوسع، ولكنها لم تتناول العمليات الدبلوماسية اللازمة للتعامل مع الجوانب الدولية الناشئة للقضايا السيبرانية؛ حيث جاءت بدايات استخدام المفهوم لوصف أنشطة “الدبلوماسية السيبرانية” من ناحية تأثير الإنترنت والتقنيات الجديدة على أهداف وأدوات وهياكل الدبلوماسية من خلال كتاب صدر عام 2002م بعنوان “الدبلوماسية السيبرانية: إدارة السياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين”([4]). وفيما بعد استُخدم المصطلح أيضًا لوصف تطور أنشطة الدبلوماسية العامة في العصر الرقمي([5]).
وذهبت الأدبيات التي تعرَّضت للمفهوم إلى تعريف “الدبلوماسية السيبرانية” على أنها “استخدام الموارد الدبلوماسية وأداء الوظائف الدبلوماسية لتأمين المصالح الوطنية فيما يتعلق بالفضاء السيبراني”؛ حيث يتم تحديد هذه الاهتمامات بشكل عام في الفضاء الإلكتروني الوطني أو استراتيجيات الأمن السيبراني، والتي غالبًا ما تتضمن إشارات إلى الأجندة الدبلوماسية([6]). بينما ذهب أحد المنتديات الدولية المعنية بمجال الأمن السيبراني (SNV) إلى تعريفها بأنها تعني “الحوار والتنسيق والتعاون الدولي بهدف حلّ مشاكل سياسة الأمن السيبراني”([7]).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدبلوماسية السيبرانية تشتمل على مجموعة واسعة من الأجندة الدبلوماسية، مثل إقامة الاتصال والحوار بين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية؛ ومنع سباق التسلح السيبراني؛ بالإضافة إلى تطوير المعايير العالمية؛ وتعزيز المصالح الوطنية في الفضاء السيبراني من خلال سياسات الأمن السيبراني واستراتيجيات المشاركة. كما تركز على الأدوار المتطورة للدبلوماسيين وإعادة تنظيم مختلف الإدارات ووزارات الشؤون الخارجية لتلبية الأهمية المتزايدة للأمن السيبراني في متابعة السياسة الخارجية أو دور التقنيات الجديدة في عمليات وهياكل الدبلوماسية([8]).
وفيما يتعلق بالأدوات، تسترشد الدبلوماسية السيبرانية بأبعاد متعددة للقوة الناعمة، وتعدّ حلاً فعالاً في التخفيف من اندلاع الشكوك السياسية أو الاقتصادية الهائلة والمخاطر والصراعات المحتملة الناشئة عن الفضاء السيبراني. وتتمثل العناصر الأساسية في مجموعة أدوات الدبلوماسية السيبرانية في بناء القدرات السيبرانية؛ حيث يحفّز بناء القدرات في مجال الأمن السيبراني الهدف النهائي المتمثل في ردع التهديدات، وتدابير بناء الثقة، وتطوير المعايير السيبرانية([9]).
وفي هذا الصدد قام الاتحاد الأوروبي منذ عام 2017م بتطوير مجموعة أدوات شاملة للدبلوماسية السيبرانية؛ بهدف المنع والردع والاستجابة للسلوك العدائي في الفضاء السيبراني([10]). ويأتي في مقدمة هذه الأدوات “نظام العقوبات السيبراني المستقل” في الاتحاد الأوروبي، والذي تم تبنّيه في عام 2019م([11]). ووفقًا لكلمة الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، خلال النسخة الثانية من المنتدى السيبراني للاتحاد الأوروبي، في سبتمبر 2020م؛ فقد دخلت هذه الأدوات حيّز النفاذ في 30 يوليو 2020م؛ حيث تمَّ لأول مرة فرض حظر سفر وتجميد أصول ضد ستة أفراد، وكذلك تجميد أصول ضد ثلاثة كيانات شاركت في الهجمات السيبرانية المعروفة باسم WannaCry وNotPetya وOperation Cloud Hopper التي استهدفت الشركات الموجودة في الاتحاد الأوروبي. وكذلك محاولة الهجوم السيبراني على منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) في لاهاي([12]).
ووفقًا للمسؤول الأوروبي، فقد اكتسب نشاط الدبلوماسية السيبرانية مؤخرًا زخمًا ملحوظًا، وأصبح واقعًا جديدًا للتعاون بين الدول، ودلَّل على ذلك بمثالين([13])؛ أحدهما تمثل في التعاون الدولي لمساعدة سريلانكا في تحقيقاتها بشأن الهجمات الإرهابية (المعروفة باسم “تفجيرات سريلانكا عيد الفصح 2019م”)، والتي وقعت في أبريل 2019م؛ حيث كانت هناك حاجة إلى أدلة إلكترونية.
ووفقًا لاتفاقية بودابست بشأن الجرائم الإلكترونية؛ تم تقديم مساعدات دولية فورية من عدد من البلدان. وتمكنت سريلانكا من جمع الأدلة الإلكترونية اللازمة بنجاح لمتابعة التحقيقات.
المثال الآخر، تمثل في مذكرة التفاهم التي تم توقيعها بين الاتحاد الأوروبي وجمهورية الدومينيكان. لمساعدتها في تطوير المرونة الإلكترونية الوطنية، وتعزيز فريق الاستجابة لحوادث أمن الحواسب؛ بحيث يعمل هؤلاء كـ”رجال إطفاء إلكترونيين”؛ لاكتشاف الحوادث السيبرانية والتعافي منها([14]). ومن ثم، تسعى الدول صاحبة الريادة في المجال السيبراني عبر هذه الأدوات إلى تنشيط دبلوماسيتها وإيجاد مساحات مشتركة مع شركاء جدد طامحين في تعزيز قدراتهم السيبرانية في إطار مصلحي متبادل.
ثانيًا: السياسة الخارجية السيبرانية لإسرائيل في إفريقيا
ارتباطًا بما يراه الكثيرون في مجال العلاقات الدولية بأن من أدوات فنّ الحكم بيع الأسلحة لأغراض دبلوماسية؛ فقد سعت تل أبيب لتعزيز دبلوماسيتها عبر هذه الأداة، من خلال بيع أسلحتها التكنولوجية المتقدمة في المجال السيبراني، من أجل استقطاب شركاء جدد. وهو ما تحقّق من خلال مجموعة “إن.إس.أو” الإسرائيلية (NSO)، التي تبيع تطبيقات تكنولوجية متطورة تُستخدم لأغراض مشروعة كمكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات والجرائم الكبرى الأخرى، وأغراض غير مشروعة مثل مراقبة اتصالات واختراق هواتف نشطاء الرأي والمعارضين، ويأتي في مقدمة هذه التطبيقات برنامج بيغاسوس (Pegasus)([15]).
وتجدر الإشارة إلى أن فريق البحث في NSO هو من قدامى المحاربين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. وهم جميعًا خريجو دورات تدريبية للنخبة، بما في ذلك وحدة سرية مرموقة لبرنامج 8200 المسمى ARAM الذي لا يقبل سوى حفنة من أكثر المجندين ذكاءً ويُدرّبهم على أكثر الأساليب تقدمًا لبرمجة الأسلحة السيبرانية، وتتبع هذه الوحدة مديرية المخابرات العسكرية الإسرائيلية AMAN، الوكالة الأكبر في مجتمع التجسس الإسرائيلي([16]).
وتحقيقًا للهدف العام الذي تعمل عليه الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة لتعزيز الدبلوماسية الإسرائيلية وكسب شركاء جدد؛ فقد ضمنت القرارات التي اتخذتها NSO في وقت مبكر بشأن علاقتها بالمنظمين من المؤسسات الحكومية، بأنها ستعمل كحليف وثيق، إن لم يكن ذراعًا، للسياسة الخارجية الإسرائيلية. حيث شرح أحد المساعدين العسكريين السابقين لبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء آنذاك، مزايا هذا الارتباط. قائلاً: “مع وجود وزارة دفاعنا في ضوابط كيفية تحرك هذه الأنظمة، سنكون قادرين على استغلالها وجني الأرباح الدبلوماسية”([17]).
وانعكاسًا لتلك السياسات فقد تمكَّنت تل أبيب من إيجاد موطئ قدم عزَّز من حضورها في القارة الإفريقية، وذهب المتخصص الإسرائيلي في الشأن الإفريقي يوتام جيدرون، إلى وصف نهج إسرائيل بـ“الوسيط” للدبلوماسية في إفريقيا([18]).
وقد تركَّز مدار الحركة الإسرائيلية على مسارين؛ الأول، تمثل في تكثيف التعاون الثنائي بين تل أبيب والعديد من دول القارة في المجالات المختلفة كالابتكار التكنولوجي والزراعة والأمن والدفاع وغيرها. وتمكنت عبر هذه المساحات المشتركة للتعاون في إطار النموذج التنموي الذي تقدّمه لدول القارة من تجاوز حالة الممانعة لتطبيع العلاقات التي كانت عليها غالبية دول القارة إبَّان حربي عام 1967 و1973م. وقد مهَّد نجاح تل أبيب في هذا المسار، إنجاح جهودها للمسار الثاني، المتمثل في شرعنة حضورها عبر الآليات المؤسسية الجماعية، وانعكس ذلك من خلال جهودها الحثيثة لاكتساب صفة مراقب في المؤسسة القارية (الاتحاد الإفريقي)، وهو ما تحقّق في قرار رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي في 22 يوليو 2021م، بمنح إسرائيل صفة المراقب([19]). ويُثير هذا القرار بدَوْره أزمة في الوقت الراهن، نظرًا لرفض بعض الدول الإفريقية لهذه العضوية ومنها جنوب إفريقيا، الجزائر، نيجيريا([20]).
ورغم ما يُثيره هذا القرار من تحفظات لدى بعض الدول الإفريقية؛ إلا أنه يكشف عن ملاحظات أساسية حول الدور الإسرائيلي المتغلغل في القارة، وهو ما استند إليه رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي في تبرير قراره منح إسرائيل صفة المراقب؛ حيث أوضح ملامح التغلغل الإسرائيلي من خلال شراكاتها مع العديد من دول القارة في المجالات المختلفة، وفي مقدمتها المجال التكنولوجي، هذا فضلاً عن “زخم الاعتراف” الذي حظيت به مِن قِبَل 44 دولة إفريقية، ووجود تمثيل دبلوماسي على مستوى السفارات لـ17 دولة إفريقية بتل أبيب، وعلى مستوى القنصليات العامة 12 دولة([21]).
ووفقًا لفلسفة المقاربة الإسرائيلية لتعزيز التعاون مع دول القارة الإفريقية؛ فقد برز “العنصر الأمني” باعتباره الركيزة الأساسية في إقامة العلاقات على مدى العقد الماضي. ارتباطًا بالاتجاه التاريخي والتوسع مؤخرًا المتمثل في زيادة تأثير المؤسسة الأمنية على شكل وتنفيذ السياسة الخارجية والأمنية لإسرائيل بشكل عام، وإفريقيا على وجه الخصوص([22]). وهو ما أكَّده رئيس الموساد الأسبق، إفرايم هاليفي؛ حيث أوضح أن المستوى العسكري لعب دورًا مهمًّا في السياسة الخارجية لإسرائيل([23]).
وتؤكد هذه الحجة الإحصاءات الخاصة بالصادرات الأمنية لإسرائيل بشكل عام، ولإفريقيا بشكل خاص؛ حيث تحتل إسرائيل المرتبة الثامنة في قائمة أكبر عشر دول مُصدِّرة للأسلحة في العالم، بحصة تبلغ 3,1% من جميع الصادرات الأمنية في جميع أنحاء العالم([24])؛ حيث بلغت الصادرات الأمنية العامة لإسرائيل عام 2019م: 7,203 مليار دولار (أي ما يقرب من 25 مليار شيكل). في حين شهد حجم الصادرات الأمنية إلى إفريقيا نمو أكبر بلغ 2٪ من جميع الصفقات في 2018م، وتضاعف في 2019م إلى 4٪. وتعكس هذه النِّسَب قفزةً هائلةً في إجمالي الصادرات الأمنية إلى إفريقيا؛ حيث كانت تبلغ 71 مليون دولار في عام 2009م، وبحلول عام 2019م وصلت إلى 288 مليون دولار، أي بزيادة قدرها 306 في المائة([25]) (انظر شكل رقم 1).
شكل رقم (1)
الصادرات الأمنية الإسرائيلية إلى إفريقيا خلال الفترة (2009-2019م) (بمليارات الدولارات)
Source: Yaron Salman, The Security Element in Israel-Africa Relations, (INSS), Strategic Assessment, Volume 24, No. 2, April 2021. Access Date: March 27, 2023. Retrieved From:
https://www.inss.org.il/publication/the-security-element-in-israel-africa-relations/
ومن ثم، وارتباطًا بما تدفع به الرؤية الإسرائيلية بمحدودية أثر المساهمة الدبلوماسية لوزارة الخارجية فيما يتعلق بقضايا التعاون الخارجي؛ حيث تنظر إلى العنصر الأمني باعتباره عنصرًا رئيسًا في إنشاء وتعزيز الأمن القومي، وإقامة العلاقات وتعزيزها([26])، وهو ما يعكس هيمنة المؤسسة الأمنية على اعتبارات إسرائيل وعمليات صنع القرار في مجال العلاقات الخارجية؛ فإن التوجه الإسرائيلي الجديد في إفريقيا يميل إلى المزج ما بين الأمني والدبلوماسي عبر تعزيز نشاط “الدبلوماسية السيبرانية” التي ترتكز على الشكل التعاوني الدبلوماسي في مجالات وتطبيقات الأمن السيبراني الذي تتفوق فيها تل أبيب وتُشكّل احتياجات رئيسة لمعظم دول القارة.
وانعكس ذلك في تركيز تل أبيب على تصدير الصناعات التكنولوجية التي تجاوزت حصة المعدات العسكرية، والمتمثلة في التكنولوجيات الاستخبارية وتكنولوجيات التنصت وجمع ورقمنة المعلومات الشخصية. هذا فضلاً عن نُظُم للتَّحكُّم في الحدود وتجهيزات للمراقبة البرية والبحرية وأدوات وبرامج كومبيوتر للحرب الرقمية والتجسس بالتصوير([27]). ويبرز ذلك من خلال ما كشف عنه موقع شركة “البيت” الإسرائيلية للأنظمة الإلكترونية، لتوريد أنظمة أمن واستخبارات إلكترونية لأحد الدول الإفريقية دون توضيح تفاصيل حول الصفقة([28]).
ونظرًا لمحدودية المعلومات المتداولة حول طبيعة الصفقات الأمنية التي تعقدها تل أبيب مع الدول الإفريقية؛ حيث تُصنّف إسرائيل باعتبارها الدولة الأقل شفافية فيما يتعلق بالعلاقات الأمنية، إلى جانب بعض الدول الأخرى وفقًا لمنظمة Small Arms Survey([29]). تتجه غالبية الدراسات للاعتماد على التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية بشأن صادرات إسرائيل للمنتجات الأمنية التي يتم استخدامها في أغراض تشكل انتهاكات ضد مواطني الدول المستوردة.
على سبيل المثال، حظيت دول القارة بنصيب من التقرير الاستقصائي الذي شارك فيه 80 صحفيًّا من 17 مؤسسة صحفية وإعلامية حول العالم([30])، حول البلدان التي اقتنت برنامج التجسس “بيجاسوس”، الذي تبيعه مجموعة “NSO” الإسرائيلية للاستخبارات الرقمية. والذي استُخْدِمَ للتجسس على صحافيين وناشطين حول العالم، إلى جانب رؤساء دول ودبلوماسيين وأفراد عائلات ملكية([31]). هذا فضلاً عن تقرير منظمة العفو الدولية الذي كشَف عن التعاون الإسرائيلي مع وزارة الأمن الداخلي بجنوب السودان، لتركيب وتشغيل معدات المراقبة للفحوصات الداخلية([32]).
ووفقًا للتحقيق الذي أجرته مجموعة الصحفيين الاستقصائيين (Forbidden Stories)، حول اقتناء حكومة دولة غانا برنامج التجسس الإسرائيلي (Pegasus)؛ فقد كشف عن خضوع هواتف المواطنين الغانيين للمراقبة بشكل غير قانوني من خلال البرنامج. والذي اقتنته غانا في ديسمبر 2015م، عبر شركة Infralocks Development Limited (IDL) التي توسطت عملية الشراء بعقد بقيمة 5,5 مليون دولار مع مجموعة NSO لشراء Pegasus. ثم قامت بعد ذلك بإعادة بيع البرنامج إلى هيئة تنظيم الاتصالات في غانا، وهي الهيئة الوطنية للاتصالات (NCA)، مقابل 8 ملايين دولار([33]). هذا فضلاً عن عدد من الدول الإفريقية الأخرى التي اقتنت تلك التكنولوجيا، وفقًا للتقارير المسرَّبة، على غرار رواندا وتوغو والمغرب([34]).
ثالثًا: الفرص والتحديات المطروحة
في إطار المنظور الاستراتيجي لإسرائيل وفقًا للنهج الذي أسماه بن غوريون، “عقيدة المحيط“، والذي يهدف إلى تأسيس روابط وعلاقات مع دول ومنظمات تقع خارج حلقة الدول العربية. من خلال تغليب البعد الأمني على السياسة الخارجية عبر تقديم أسلحة متطورة كعاملٍ رئيسٍ في إقامة تلك الروابط([35])؛ تستمر تل أبيب بذات النهج لتعزيز علاقاتها في القارة السمراء، بيد أن التطورات المتلاحقة بمفهوم الأمن واشتماله على أبعاد جديدة ارتبطت بالتهديدات غير التقليدية كالهجمات السيبرانية، وكذلك الاستخدامات المتقدمة للتطبيقات السيبرانية في مجال الاستخبارات والتجسس. بالإضافة إلى حالة الرواج الكبير الذي تلقاه تجارة الأسلحة السيبرانية؛ نظرًا لما تُحدثه تلك الأسلحة من تغيير في مشهد العلاقات الدولية. فهي رخيصة نسبيًّا، ويمكن توزيعها بسهولة، ويمكن نشرها دون عواقب للمهاجم؛ لذلك كله سعت تل أبيب إلى إشباع احتياجات دول القارة في هذه المجالات الأمنية المتقدمة في مقابل تأمين مصالحها الاستراتيجية في القارة، والتي تتعدد ما بين مصالح سياسية، متمثلة في توفير الدعم التصويتي من جانب الدول الإفريقية في مؤسسات الأمم المتحدة. ومصالح اقتصادية، لتوسيع نشاط صناعاتها العسكرية وزيادة الصادرات الأمنية. ومصالح جيواستراتيجية، ارتبطت بالممرات الملاحية المهمة بساحل البحر الأحمر وضرورة تأمين طرق ملاحيته. وأخيرًا وليس آخرًا، المصالح العسكرية، والتي تمثلت في تحجيم النفوذ الإيراني؛ وكذلك مواجهة أنشطة التنظيمات المتطرفة.
وتمكنت إسرائيل من تحقيق هذه المعادلة عبر بوابة “الدبلوماسية السيبرانية“، التي اكتسبت زخمًا كبيرًا في العقد الأخير لنشاطها داخل القارة؛ حيث تمكنت من خلالها من تحقيق مكاسب ملموسة على المستويات المختلفة، وفي مقدمتها المكاسب السياسية التي تمثلت في: كسر حالة العزلة والانفتاح على معظم دول القارة وتطبيع العلاقات معها. وشرعنة حضورها في القارة عبر الأُطُر المؤسسية القارية، واكتسابها صفة عضو مراقب بالاتحاد الإفريقي. هذا فضلاً عن تعزيز الدعم التصويتي لها من جانب الدول الإفريقية في المنظمات الدولية؛ من خلال الامتناع عن التصويت أو الغياب عن التصويت، بدلاً من التصويت المباشر لها([36]).
رغم ما حققته إسرائيل من مكاسب جنتها عبر شراكاتها الأمنية مع الدول الإفريقية الداعمة لحضورها؛ إلا أن مكامن تهديد هذه المكانة لا تزال قائمة؛ حيث يبدو أن رهانات تل أبيب على الأنظمة لم تُمكّنها من تجاوز تداعيات التقارير المُسرَّبة بشأن الاستخدامات غير الشرعية من جانب الأنظمة الإفريقية لبرامج التجسس الإسرائيلية لمراقبة مواطنيها. وهو ما يبرز في الحالة الغانية؛ حيث يُصِرّ الغانيون ومجموعات المجتمع المدني على أن الحكومة الإسرائيلية يجب أن تتحمَّل مسؤولية تواطؤها. هذا فضلاً عن حشد إحدى الحركات الاجتماعية مظاهرات في الشوارع في أكرا؛ للمطالبة بتحقيق برلماني في استخدام بيغاسوس في غانا منذ عام 2017م([37]).
ويبدو أن أصداء هذه التسريبات آخِذَة في التصاعد، خاصةً في أعقاب قرار إدراج وزارة التجارة الأمريكية لمجموعة (NSO) الإسرائيلية في القائمة السوداء الأمريكية للكيانات في 3 نوفمبر 2021م؛ نتيجة تعارضها مع مصالح الأمن القومي أو السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بناءً على أدلة “أن هذه الكيانات طوّرت وقدّمت برامج تجسس إلى الحكومات الأجنبية التي استخدمت هذه الأدوات لاستهداف المسؤولين الحكوميين والصحفيين ورجال الأعمال والنشطاء والأكاديميين والعاملين في السفارات بشكل ضارّ”([38]).
وبالتالي، ستفرض هذه المعطيات، وحالة التقييد النسبي التي ستواجهها تل أبيب في إصدارها لتراخيص بيع تلك التطبيقات لدول القارة –خاصة بعد قرار وزارة الدفاع الإسرائيلية تقييد الوصول إلى الصادرات الإلكترونية وفق قواعد جديدة([39])–؛ تحديات أمام استراتيجيتها نحو مزيد من التغلغل داخل القارة.
ومن شأن ذلك أن يسمح للمنافسين الآخرين بمزاحمة الدور الإسرائيلي، وملء هذا الفراغ؛ على غرار روسيا والصين، وتعزيز نفوذهما؛ من خلال بيع أدوات القرصنة الخاصة بهما إلى الدول التي لم يعد بإمكانها الشراء من إسرائيل.
[1] The officer who saw behind the top-secret curtain, Ynetnews, June 21, 2015. Access Date: February 28, 2023. Retrieved From:
https://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4671127,00.html
[2] Swed, Ori, and John Sibley Butler. “Military Capital in the Israeli Hi-Tech Industry”, Armed Forces & Society, vol. 41, no. 1, 2015, pp. 123–41. JSTOR, Access Date: February 28, 2023. Retrieved From:
https://www.jstor.org/stable/48609201. Accessed 7 Mar. 2023.
[3] Mark B. Manantan, Defining Cyber Diplomacy, Australian Institute of International Affairs, November 10, 2021. Access Date: March 10, 2023. Retrieved From:
https://www.internationalaffairs.org.au/australianoutlook/defining-cyber-diplomacy/
[4] POTTER, EVAN H., editor. Cyber-Diplomacy: Managing Foreign Policy in the Twenty-First Century. McGill-Queen’s University Press, 2002. JSTOR, Access Date: March 11, 2023. Retrieved From:
http://www.jstor.org/stable/j.ctt7zt0w
[5] Kleiner, J. The inertia of diplomacy, Diplomacy & Statecraft, 19(2), (2008). P.p 321–349. Access Date: March 12, 2023. Retrieved From:
https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/09592290802096380?scroll=top&needAccess=true&role=tab
[6] André Barrinha & Thomas Renard, Cyber-diplomacy: the making of an international society in the digital age, Global Affairs, (2017), P.p 353-364. Access Date: March 13, 2023. Retrieved From:
https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/23340460.2017.1414924
[7] Cyber Diplomacy and Cyber Foreign Policy, Stiftung Neue Verantwortung, Access Date: March 14, 2023. Retrieved From:
https://www.stiftung-nv.de/en/subproject/cyber-diplomacy-and-cyber-foreign-policy
[8] Cyber-diplomacy: the making of an international society in the digital age, Op.cit.
[9] Defining Cyber Diplomacy, Op.cit.
[10] Cyber diplomacy and shifting geopolitical landscapes, Official website of the European Union, September 14, 2020. Access Date: March 28, 2023. Retrieved From:
https://www.eeas.europa.eu/eeas/cyber-diplomacy-and-shifting-geopolitical-landscapes_en
[11] Council Regulation (EU) 2019/796 of 17 May 2019 concerning restrictive measures against cyber-attacks threatening the Union or its Member States, Official Journal of the European Union, 17 May 2019. Access Date: March 28, 2023. Retrieved From:
https://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/?uri=CELEX%3A32019R0796
[12] Cyber diplomacy and shifting geopolitical landscapes, Op.cit.
[13] Ibid.
[14] MoU for co-operation with Dominican Republic, Cyber4Dev, June 18, 2020. Access Date: March 27, 2023. Retrieved From:
https://cyber4dev.eu/2020/06/18/mou-for-co-operation-with-dominican-republic/
[15] Pegasus Spyware and Citizen Surveillance: Here’s What You Should Know, CNET, July 19, 2022. Access Date: February 28, 2023. Retrieved From:
https://www.cnet.com/tech/mobile/pegasus-spyware-and-citizen-surveillance-what-you-need-to-know/
[16] Ronen Bergman and Mark Mazzetti, The Battle for the World’s Most Powerful Cyberweapon, The New York Times, January 28, 2022. Access Date: February 28, 2023. Retrieved From:
https://www.nytimes.com/2022/01/28/magazine/nso-group-israel-spyware.html
[17] Ibid.
[18] YOTAM GIDRON, I S R A E L I N A F R I C A SECURITY, MIGRATION, INTERSTATE POLITICS, International African Institute Royal African Society World Peace Foundation, London (2020). Access Date: February 26, 2023. Retrieved From:
[19] Israeli Observer Status at the African Union: What Do They Gain?, Arab Center for Research and Policy Studies, August 5, 2021. Access Date: March 27, 2023. Retrieved From:
[20] Nosmot Gbadamosi, African Union Ousts Israeli Diplomat, Foreign Policy, February 22, 2023. Access Date: April 6, 2023. Retrieved From:
https://foreignpolicy.com/2023/02/22/african-union-summit-israel-palestine-diplomat/
[21] Remarks of the Chairperson of the African Union Commission on the granting of observer state to the State of Israel, Official website of the African Union, February 06, 2022. Access Date: March 26, 2023. Retrieved From:
https://au.int/en/pressreleases/20220206/remarks-chairperson-granting-observer-state-israel
[22] Yaron Salman, The Security Element in Israel-Africa Relations, Institute for National Security Studies (INSS), Strategic Assessment, Volume 24, No. 2, April 2021. Access Date: March 27, 2023. Retrieved From:
https://www.inss.org.il/publication/the-security-element-in-israel-africa-relations/
[23] Itzhak Oren, Between Intelligence and Diplomacy: The information Revolution as a Platform for Upgrading Diplomacy, INSS, Strategic Assessment – A Multidisciplinary Journal on National Security, Volume 23, No .3, July 2020. Access Date: March 28, 2023. Retrieved From:
[24] Armaments, Disarmament and International Security, SIPRI, YEARBOOK (2019). Access Date: March 24, 2023. Retrieved From:
https://www.sipri.org/sites/default/files/2019-08/yb19_summary_eng_1.pdf
[25] The Security Element in Israel-Africa Relations, Ibid.
[26] Between Intelligence and Diplomacy: The information Revolution as a Platform for Upgrading Diplomacy, Ibid.
[27] EZRA NAHMAD, Israel’s Triumphant Return to Africa, Orient XXI, September 19, 2017. Access Date: March 24, 2023. Retrieved From:
https://orientxxi.info/magazine/israel-s-triumphant-return-to-africa,2006
[28] Elbit Systems Awarded a $240 Million Contract to Provide an Array of Defense Electronic Systems to a Country in Africa, Elbit systems, September 26, 2017. Access Date: March 23, 2023. Retrieved From:
[29] Small arms survey annual report 2019, Small Arms Survey. Access Date: March 24, 2023. Retrieved From:
https://www.smallarmssurvey.org/sites/default/files/resources/SAS-Annual-Report-2019.pdf
[30] Revealed: the hacking and disinformation team meddling in elections, The Guardian, February 15, 2023. Access Date: March 25, 2023. Retrieved From:
[31] Pegasus: What you need to know about Israeli spyware, Aljazeera, March 26, 2022. Access Date: February 20, 2023. Retrieved From:
https://www.aljazeera.com/news/2022/2/8/what-you-need-to-know-about-israeli-spyware-pegasus
[32]JUDAH ARI GROSS, As South Sudan bloodies itself, Israeli arms sales questioned, Times of Israel, August 20, 2015. Access Date: March 26, 2023. Retrieved From:
[33] SURAYA DADOO, Israel’s Spyware Diplomacy in Africa, Orient XXI, Access Date: February 28, 2023. Retrieved From:
https://orientxxi.info/magazine/israel-s-spyware-diplomacy-in-africa,5859
[34] Lynsey Chutel, Pegasus Lands in Africa, Foreign Policy, July 28, 2021. Access Date: April 6, 2023. Retrieved From:
https://foreignpolicy.com/2021/07/28/nso-pegasus-africa-morocco-rwanda/
انظر أيضًا:
Morocco, Rwanda, Togo…how involved is Africa in ‘Pegasus Gate’?, The Africa report, July 21, 2021. Access Date: April 6, 2023. Retrieved From:
https://www.theafricareport.com/110214/morocco-rwanda-togo-how-involved-is-africa-in-pegasus-gate/
[35] The officer who saw behind the top-secret curtain, Ynetnews, June 21, 2015. Access Date: February 28, 2023. Retrieved From:
https://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4671127,00.html
[36] Yaron Salman, The UN and Israel: From Confrontation to Participation, The Institute for National Security Studies (INSS), Strategic Assessment Volume 23, No. 3, July 2020. Access Date: April 8, 2023. Retrieved From:
https://strategicassessment.inss.org.il/wp-content/uploads/2020/08/The-UN-and-Israe.pdf
[37] SURAYA DADOO, Israel’s Spyware Diplomacy in Africa, Orient XXI, Access Date: February 28, 2023. Retrieved From:
https://orientxxi.info/magazine/israel-s-spyware-diplomacy-in-africa,5859
[38] Commerce Adds NSO Group and Other Foreign Companies to Entity List for Malicious Cyber Activities, U.S. Department of Commerce, November 3, 2021. Access Date: March 8, 2023. Retrieved From:
[39] Fearing misuse, Israel tightens supervision of cyber exports, Court House News, December 6, 2021. Access Date: April 10, 2023. Retrieved From:
https://www.courthousenews.com/fearing-misuse-israel-tightens-supervision-of-cyber-exports/