يعد الحكم الرشيد وتداول السلطة مطلبًا أساسيًا للكثير من الشعوب حول العالم بحسب استطلاعات الرأي الدولية، وفي العادة يفضلونه على الأنماط المختلفة من أشكال الحكم المختلفة، باعتبار أنه يمثل تعبيرًا عن إرادتهم المجتمعة، بحكم الأغلبية واحترام حقوق الأقلية، حيث يتم بناء النظام السياسي من الأسفل إلى الأعلى، بأن يقوم الشعب بإنشاء السلطة ومحاسبتها وإقالتها إذا اقتضى الأمر. ولكن تلك المعادلة ليست بتلك السهولة في دول العالم الثالث، لاسيما تلك التي تتغول فيها المؤسسات الأمنية على بقية مؤسسات الدولة؛ حيث تعمل تلك المؤسسات على استخدام ورقة الأمن كأداة للتحكم في السلطة المنتخبة، ومن ثم تستطيع تقويضها وإفشالها بأن تجمد نشاطها الأمني والسماح بانتشار الجريمة وزيادة معدل العنف في البلاد، من أجل زيادة السخط المجتمعي على السلطة المنتخبة، والدعوة إلى الرجوع إلى أنماط حكم المؤسسات الأمنية أو الرجل القوي المسيطر عليها، والذي غالبًا ما يكون عسكريًا.
وفي إفريقيا لا تزال تلك المعادلة منتشرة بقوة، لاسيما مع سيطرة القوى الأجنبية والاستعمارية التقليدية على الكثير من المؤسسات الأمنية، ومن ثم التحكم في وتيرة الصراع على السلطة بتقوية تلك المؤسسات على بقية مؤسسات الدولة. وقد صرح جوزيف أسونكا، الرئيس التنفيذي لشركة Afrobarometer، وهي شركة خاصة باستطلاعات الرأي والاستبيانات داخل القارة السمراء، للمشاركين في مؤتمر Africa Drive for Democracy – Elders Retreat في أروشا، تنزانيا، الذي عقد في 20 يوليو الجاري، قائلاً إن الرضا عن الطريقة التي تعمل بها الديمقراطية قد انخفض في جميع أنحاء إفريقيا، مما قوض ثقة المواطنين في الحكم الديمقراطي.
وذلك المؤتمر من أجل الديموقراطية، جمع داخل أروقته رؤساء سابقين وحكماء أفارقة لمناقشة حالة الديموقراطية في القارة السمراء، من أجل الوصول إلى بناء مسارات ديموقراطية أفضل وأكثر استدامة في إفريقيا. وقد أشار أسونكا إلى عدم امتثال القادة الأفارقة لحدود المدد الرئاسية، وتزايد الجريمة وانعدام الأمن، وانتشار الفساد، كعوامل قد تسهم في عدم الرضا الشعبي عن الحكم الديمقراطي.
وقال: “البيانات تظهر أن التزام الأفارقة بالديمقراطية لا يزال قويًا، ومع ذلك، فشلت الحكومات والقادة المنتخبون في تلبية هذه التطلعات الديمقراطية الشعبية. وقد أدى ذلك إلى تراجع الثقة الشعبية في الحكم الديمقراطي وزيادة الانجذاب إلى الحكم العسكري والتدخل العسكري “.
حيث تُظهر بيانات مقياس Afrobarometer الحديثة من 36 دولة شملها الاستطلاع في 2021/2022 أن ثلثي (66٪) الأفارقة يفضلون الديمقراطية على أي شكل آخر من أشكال الحكم. بالإضافة إلى ذلك، ترفض أغلبية كبيرة حكم الرجل الواحد (80٪)، وحكم الحزب الواحد (78٪)، والحكم العسكري (67٪). لكن 38٪ فقط عبروا عن رضاهم عن الطريقة التي تعمل بها الديمقراطية في بلادهم.
وقد حضر المؤتمر رؤساء سابقون لكل من موزمبيق وسيراليون واثيوبيا وتنزانيا على التوالي، وأكد هؤلاء القادة على الحاجة إلى حلول عملية وقابلة للتنفيذ لتعزيز الديمقراطية. وصرحت الرئيسة التنزانية، التي كانت ضيف شرف المؤتمر، سامية صلوحو حسن: “ما لم تعالج الحكومات الأفريقية أوجه القصور في الحكم الديمقراطي وتقدم الخدمات العامة الأساسية لشعوبها، فإن الديمقراطية ستظل طموحًا لن يتحقق أبدًا بشكل هادف”.
وفي حديثه عن موضوع المؤتمر، “تأمين مستقبل إفريقيا الديمقراطي من خلال التعلم والمشاركة”، قال رئيس سيراليون إيرنست باي كوروما إن مواجهة هذه التحديات تتطلب عملًا جماعيًا للحفاظ على الأعراف والمؤسسات الديمقراطية وتعزيزها. وقال: “نحن جميعًا في هذا معًا لأننا نؤمن بالقوة التحويلية للديمقراطية”. “لا شك أن الديمقراطية لا تخلو من العقبات، ولكن يجب علينا معًا مواجهة التحديات التي تهدد أسسها: القيادة الضعيفة، والمواطنة غير الفعالة، والفساد، والفقر، والاستقطاب السياسي، والانتخابات المزيفة، وكل ما يصاحب ذلك من تداعيات الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي.” وخلال المناقشات، أقر المشاركون بالدور الحيوي للحكماء الأفارقة في تشكيل المستقبل الديمقراطي للقارة.
في جميع أنحاء القارة التي شهدت 21 انقلابًا في ثماني سنوات، تُظهر بيانات مقياس Afrobarometer أن مدى معارضة المواطنين للحكم العسكري قد انخفض بنسبة 10 نقاط مئوية على مدى العقد الماضي؛ حيث سجلت ثلاث دول فقط من أصل 36 دولة شملها الاستطلاع (ليبيريا وأوغندا والسودان) زيادات كبيرة في مقاومتها للحكم العسكري. من المثير للقلق أن أغلبية ضئيلة (53٪) من المواطنين على استعداد لتأييد التدخل العسكري إذا استغل القادة المنتخبون سلطتهم خارج نطاق التفويض الشعبي، أو فشلهم في تحقيق الأمن أو السيطرة على المؤسسات الأمنية أو مع انتشار العنف والجريمة في البلاد.
وتلك المؤشرات تعد مزعجة لمؤيدي التحول الديموقراطي؛ حيث إنها في الوقت ذاته تشجع المسيطرين على مؤسسات القوة في دول العالم الثالث على استغلال مناصبهم من أجل القيام بانقلابات عسكرية، باعتبار أنهم وحدهم القادرون على السيطرة على المؤسسات الأمنية وغير الأمنية، وقادرين على توفير الأمن بقوة السلاح، وكذلك قادرون على إحلال الاستقرار والهدوء ومنع العنف والجريمة، ومن ثم تمثل تلك الاستطلاعات دعوة إلى أولئك القادة النافذين بالسيطرة حتى على المؤسسات المنتخبة بما فيها مؤسسة الرئاسة في تلك البلدان.
فلا شك أن الأمن هو مفتاح التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي واستقبال الاستثمارات الأجنبية وانتعاش الخدمات مثل السياحة واستضافة المؤتمرات الدولية وغيرها من الأنشطة التي تظهر استقرار الدولة، ومن ثم تظل معضلة السيطرة على المؤسسات الأمنية هي إحدى أهم الثغرات في عمليات التحول الديموقراطي في إفريقيا وفي غيرها من دول العالم الثالث. فالحكم الرشيد يتطلب حياد مؤسسات الدولة الأمنية عن المشاركة السياسية، وعن الانحياز إلى طرف دون طرف لاسيما في حالات الاستقطاب السياسي وانتشار العنف والجريمة، بأن تقوم بدورها على أكمل وجه في توفير الأمن وإحلال الاستقرار والقيام بوظائفها الأمنية ونجدة المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية والهوياتية.
ولا يمكن أن توجه اللائمة إلى الشعوب بانحيازهم إلى الأمن أو تفضيلهم للانقلابات العسكرية في حال فشل القادة المنتخبين ديموقراطيًا في إحلال الأمن في البلاد، فتظل تلك هي مسئولية من يتولى السلطة والذي يجب أن يتصدى لها من يستطيع السيطرة على المؤسسات الأمنية وغيرها من مؤسسات الدولة الفاعلة، وعلى رأسها القضاء وكذلك المؤسسات الثقافية المسئولة عن عدم إشاعة أجواء الاستقطاب السياسي على أسس دينية أو عرقية أو جهوية.
ومن ثم فإن التاريخ يرشدنا إلى أن أغلب حالات التحول الديموقراطي الناجحة شهدت حيادًا من المؤسسات الأمنية، أو وجود قادة غير طامعين في السلطة من مسئولي تلك المؤسسات، ومن ثم السماح لبقية مؤسسات الدولة أن تقوم بعملها في الإصلاح الديموقراطي ومساءلة الحكومة وتحقيق الفصل بين السلطات، وتلبية مطالب الشعب عن طريق إجراء الاستطلاعات والاستبيانات، وتحقيق المصلحة الوطنية وليس مصالح فئات أو نخب ذات نفوذ أمني أو عسكري.
ومن ثم فإن تلك الاستطلاعات وكذلك تجارب التاريخ تفيد بأن الإصلاح المؤسسي له الأولية على التحول الديموقراطي، فالانتخابات وحدها ربما تأتي بقادة ضعفاء وغير مسيطرين إذا لم تقف مؤسسات الدولة الفاعلة على الحياد والقبول بالتحول الديموقراطي، وذلك الإصلاح المؤسسي يتطلب عقودًا من نشر الثقافة السياسية وأهمية الحكم الرشيد وضرورة حياد مؤسسات الدولة والقيام بأدوارها المنوطة بها، وإلا فإن الانقلابات العسكرية والتوترات الأمنية ستظل ظاهرة دائمة الاستصحاب في دول العالم الثالث، وعلى رأسها دول إفريقيا جنوب الصحراء.