عمّار ياسين
باحث في دراسات السّلام والصّراع
تتميّز دراسة الفكر السياسي لشخصيات قديمة أو مُعاصرة بخصائص مهمة؛ يأتي على رأسها إمكانية تحليل مواقفها السابقة والحالية تجاه العديد من القضايا بصورة بنّاءة، بل وإمكانية استشراف والتنبؤ بردود أفعال تلك الشخصيات في المُستقبل؛ بناءً على ماهية فِكْرها ومُنطلقاتها والقضايا الرئيسة التي أَوْلَتها أهميّةً وعنايةً خاصّةً، فضلًا عن العوامل المؤثرة في شخصيتها والبيئة التي ترعرعت أو تعيش فيها حاليًا. وهذا كلُّه يُضفي بُعدًا مُغايرًا عن الأبعاد التقليدية التي تُركّز على الأفعال وردود الأفعال، وتتغافل عن أن تسلط الضّوء على مُصْدِر تلك الأفعال وردود الأفعال، وما هو مألوفٌ أن يصدر منه أو العكس.
ومن النظريّة إلى التطبيق؛ نجد شخصية سياسيّة لها وزن إقليمي كبير في السنوات الأخيرة في القارة الإفريقيّة مثل آبي أحمد علي، رئيس الوزراء الإثيوبي الحالي والحائز على جائزة نوبل للسّلام في عام 2019م، في أعقاب نجاحه في التوصُّل مع إريتريا لاتفاق سلام، وقيادته البلاد من أجل خروجها من عثراتها، وحيازة مكانة إقليمية مُغايرة؛ نجد شخصيته مدعاةً للتعرُّف عليها عن كثب، والوقوف على نقاط محددة؛ سواءٌ في العوامل المؤثرة على فِكره أو بيئته أو توجهاته ورؤيته لقضايا ذات مساس بإثيوبيا بصفة خاصَّة، والواقع الإفريقي بصفة عامة، ومنها على سبيل المثال: أزمة الاندماج الوطني؛ التي تُمثِّل حجر عثرة في ربوع إفريقيا، وليس فقط في إثيوبيا ونظام الفيدراليّة الإثنيّة الذي تعمل وفقه.
إشكاليّة الدراسة:
على الرغم من وجود قادة أفارقة مُعاصرين كُثُر يدّعون أن لديهم أفكارًا ورؤًى من أجل النهوض ببلدانهم وبالقارة الإفريقيّة؛ إلا أن القليل منهم فقط هو مَن قدَّم بالفعل إسهامات فكريّة تجاه قضايا وطنهم خاصةً، والقارة الإفريقيّة عامةً، ومن بين هؤلاء: آبي أحمد علي، رئيس وزراء إثيوبيا الحالي. تبحث الدراسة سر بزوغ آبي أحمد على ساحة القادة الأفارقة المفكّرين على الرغم من سنّه الصغيرة، وتُسلِّط الضوء على كتاباته وخطاباته؛ علّها تصل إلى تفسير واقعي لـ”ماهية التآزر” لذا، تطرح الدراسة تساؤلًا رئيسًا هو:
في إطار بحثه عن هُويّة جامعة وزعامة قارية.. ما هي ماهيّة ورمزيّة التآزر (Medemer) في فِكر ووجدان آبي أحمد؟ ولماذا اعتبرها قضية أساسيّة وأيديولوجيّة راسخة في مؤلّفاته وفترة حُكْمه من أجل النّهوض بإثيوبيا خاصّة والقارة الإفريقيّة عامّة؟
فرضيّات وتساؤلات الدراسة
تطرح الدراسة عدة فرضيات تسعى للتحقق منها وإثبات صحّتها، وهي على النحو التّالي:
- لعب التنوُّع الإثني بالنسبة لوالدي آبي أحمد دورًا كبيرًا في تحديد سماته الشخصيّة وأفكاره وترتيب أولويات قضاياه في الحياة بصفة عامة، وفي قضايا إثيوبيا وإفريقيا خاصّة.
- مفهوم التآزُر “Medemer” في فكر وجدان آبي أحمد مؤشّر على النّهوض الوطني والقاري، كلّما زادت فعالية وعدد مُعتنقيها؛ دلّ ذلك على المُضيّ قُدُمًا نحو الأمام.
- النُّهوض بإثيوبيا في فكر ووجدان آبي أحمد جُزء أصيل من النّهوض بإفريقيا، كلّما نهضت إثيوبيا؛ عاد ذلك بالنّفع على النّهوض بالقارة الإفريقيّة.
- أيديولوجيّة التآزر في فكر ووجدان آبي أحمد لا يمكن تحقيقها في فترة وجيزة، كلّما طال أمد التمسُّك بها؛ دلّ ذلك على وجود انعكاسات بنّاءة على الأرض تجاه القضايا العالقة.
وفي هذا الصّدد تطرح الدراسة عدة تساؤلات على النحو التالي:
- هل ظروف نشأة آبي أحمد لها دور في إيمانه بالتآزُر كمفتاح لإدارة التنوُّع الإثني؟
- هل مفهوم التآزر “Medemer” لدى آبي أحمد مجرد أيديولوجيّة فكريّة؟ أم أنَّ به إطارًا حركيًّا جنبًا إلى جنب مع الإطار الفكري؟
- بواسطة التآزر، كيف ينظر آبي أحمد لمُستقبل إثيوبيا والقارة الإفريقيّة؟
- كيف يرى آبي أحمد إفريقيا من خلال إثيوبيا، أو إثيوبيا من خلال إفريقيا؟
منهجيّة الدراسة:
تعتمد الدراسة بصفة أساسيّة على أداة “تحليل المضمون“، جنبًا إلى جنب مع أُسلوب “المُقارنة“؛ فيما استطاع الباحث الحصول عليه من مصادر مُباشرة (سلسلة مؤلّفاته في التآزر: التآزر، وجيل التآزر Medemer, and Generation Medemer) فضلًا عن بعض كتاباته العلميّة وخطاباته السياسيّة في مُختلف المحافل الوطنية والإقليميّة والدوليّة). وذلك جنبًا إلى جنبٍ مع مصادر غير مُباشرة في مرحلة جمع البيانات اللازمة لتحليل أفكاره ورؤاه والوقوف على الخطوط العريضة الأساسيّة فيها (مُقابلة عبر الإنترنت مع أحد أساتذته المُباشرين بمعهد دراسات السّلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي) قبيل حصوله منه على درجة الدكتوراه في دراسات السّلام والصّراع عام 2017م، أو كتابات كُتبت عنه؛ تفنيدًا لآرائه وأفكاره، مقارنةً بما قام به على أرض الواقع.
تقسيم الدراسة:
قُسّمت الدراسة إلى أربعة محاور أساسيّة على النحو التالي:
المحور الأول: العوامل المؤثرة على فكر آبي أحمد
وتشمل: نشأته وسماته وخبراته الشخصية وخبراته، وقضايا العصر التي واجهها، والسياق الحضاري الذي عاش فيه.
المحور الثاني: قضيّة “التآزُر” في فكر ووجدان آبي أحمد
وتشمل: إسهاماته الفكريّة المُباشرة ضمن سلسلة التآزر التي بدأها، ويواصل الكتابة فيها، مثل كتاب: التآزر (Medemer) وجيل التآزر (Generation Medemer)، فضلًا عن كتاباته العلميّة وبعض خطاباته السياسيّة، بالإضافة للمراجع غير المُباشرة مثل مُراجعات كُتبه وشهادة أحد أساتذته بمعهد دراسات السّلم والأمن بأديس أبابا.
المحور الثّالث: تقييم “تآزُر” آبي أحمد
ويشمل: جوانب القوة والضعف في فكر آبي أحمد، ومُقارنته بالأفكار والآراء ذات الصلة. وكذلك الجوانب الحركيّة (التطبيقيّة) لفكره، وبحث مدى نجاحه في تطبيق فِكرِه أم لا، وإلى أيّ مدًى، وهل هو قابل للتطبيق من الأساس أم لا.
المحور الرابع: نتائج الدراسة
ويشمل: أهم النقاط المُستخلَصة والخطوط العريضة البارزة في عقلية آبي أحمد من الناحيتين الفكرية والمسلكيّة، فضلًا عن تأثيرات البيئة الداخليّة والخارجيّة، وانعكاسات ذلك عليه وعلى ما حاول ترسيخه وإضفاء طابع خاص عليه، مثل مُصطلح “ميديمير آبي أحمد”، وغيره.
المحور الأول
البيئة المؤثرة على فكر آبي أحمد
يُسلّط هذا المحور الضوء على ظروف نشأة آبي أحمد، وسماته الشخصيّة وخبراته التي مرّ بها و/أو اكتسبها منذ نعومة أظافره وحتى نيله جائزة نوبل للسّلام، وبقاؤه على رأس السُّلطة في إثيوبيا للعام الخامس على التوالي.
أولًا: ظروف نشأته
وُلد آبي أحمد في 15 أُغسطس 1976م في بلدة بشاشا الواقعة في إطار مُقاطعة كافا الإثيوبيّة التاريخيّة، لأب مُسلم وأُم مسيحيّة. والده هو “أحمد علي” مُسلم ينتمي لإثنية الأُورومو ووالدته هي “تيزيتا وُولد” مسيحيّة أرثوذكسيّة تنتمي لإثنية الأمهرا. في طُفولته أُطلق عليه اسم “أبيوت Abiyot” ويعني الثائر، وهو الابن الثالث عشر لأبيه والابن السّادس لأُمّه، والتي كانت الزوجة الرابعة لأبيه. التحق بالمدارس المحلية في منطقة “أجارو” وتخرّج في كُليّة تكنولوجيا المعلومات في أديس أبابا عام 2001م، ثم بدأ عمله مع قوات الدفاع الوطني الإثيوبية.
وفي عام 2011م حصل آبي أحمد على درجة الماجستير في القيادة التحويليّة من جامعة جرينتش بلندن، بالشراكة مع معهد أديس أبابا الدولي للقيادة، وحصل بعدها في 2013م على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة أشلاند بالتعاون مع كليّة ليدستار للإدارة والقيادة. وحصل بعدها على شهادة الدكتوراه في 2017م بمعهد دراسات السّلم والأمن التّابع لجامعة أديس أبابا، في تخصُّص دراسات السّلام والصّراع.
آبي متزوّج من “زيناش تاياهي” التي كانت قد خدمت، جنبًا إلى جنب معه، في قوات الدفاع الإثيوبية، أنجب منها 3 فتيات هُنّ: ديبورا، ريكاب، وآمن. وفي أغسطس 2018م قام الزوجان بتبنّي طفل أسموه “مِليون”. يعتنق المسيحيّة ويُعرَف عنه كونه متديّنًا، إلى جانب قدرته على التحدُّث بعدّة لغات من بينها: الإنجليزيّة، التيجرانيّة، الأمهريّة والأوروميّة.([1])
ثانيًا: قضايا عصره والسياق الحضاري الذي عاش فيه
بحُكم ولادته في فترة الحرب الباردة، تمثّلت قضايا عصره في التحرُّر من الاستعمار والاستقطاب، وبناء أُمّة، والتخلُّص من الوجود والنفوذ الأجنبي، فضلًا عن الاعتزاز بالهُويّة الإفريقيّة في ظل بلد مثل إثيوبيا؛ تجمع ما يقرب من 80 إثنية، ومُقسّمة بالأساس فيدراليًّا على أساس إثني لا إقليمي.
ثالثًا: مساره المهني
في بداية شباب آبي أحمد انضم لحزب أورومو الديمقراطي، وشارك في “النضال” ضد نظام حكم منجستو هيلاميريام، وبعدها في عام 1995م تم إيفاده ضمن القوات الأُممية لحفظ السّلام في رواندا في أعقاب حرب الإبادة الجماعية حينذاك، وذلك بعدما بات جنديًّا بقوات الدفاع الوطني الإثيوبية. وبين عامي 1998 و2000م في ظل النزاع بين إثيوبيا وإريتريا، قاد فريقًا استخباراتيًّا للكشف عن مواقع تمركز القوات الإريتريّة([3]).
بدأ حياته السياسيّة مطلع الألفيّة الجديدة، وبعد فترة وجيزة من اشتغاله بالسياسة وترقّيه في حزب أورومو الديمقراطي؛ تم انتخابه عضوًا في البرلمان عام 2010م؛ وكُلّف بمهام إنشاء “المُنتدى الديني للسّلام”، والذي لعب دورًا محوريًّا في إعادة التفاعل السّلمي بين المجتمع المسيحي والمُسلم في إثيوبيا.([4])
واعتبارًا من عام 2015م، أصبح آبي أحمد، أحد أهم الشخصيات المحوريّة في الكفاح ضد الاستيلاء غير القانوني على الأراضي في إقليم أوروميا، وبعد ثلاث سنوات من الاحتجاجات والاضطرابات؛ أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هيلاميريام ديسالين استقالته، وتولّى آبي بعده السُّلطة؛ وأثناء حلف اليمين وعد بأن يُعزّز من وحدة وتماسك إثيوبيا وشعوب إثيوبيا، وصرّح بأنه على استعداد لبدء مفاوضات مع إريتريا من أجل تسوية قضية بادمي المتنازع عليها بين الطرفين وإنهاء الصّراع الدائر.([5]) وهو ما استطاع تحقيقه بتوقيع اتفاق السّلام مع إريتريا.
فيما يلي تدرُّج لأهم المحطّات الفارقة في حياة آبي أحمد:
المصدر: العين الإماراتيّة الإخباريّة([6])
رابعًا: جوائز وأوسمة حصل عليها
نال آبي أحمد العديد من الجوائز والأوسمة، خاصّةً في سنتي بزوغ نجمه الوطني والإقليمي، في عامي 2018 و2019م تواليًا. ففي 9 يونيو 2018م حصل على وسام “لؤلؤة إفريقيا الأكثر تميُّزًا”، وهو أعلى وسام مدني في أوغندا، ثم نال على “وسام زايد” من وليّ عهد الإمارات العربيّة المُتحدة في 24 يوليو 2018م، ثم حصل على “وسام الملك عبدالعزيز” من المملكة العربيّة السعوديّة في 16 سبتمبر 2018م، وفي العام نفسه ظهر في قائمة أكثر مائة إفريقي تأثيرًا في مجلة “تايم” وحصل على لقب “إفريقي العام” في 15 ديسمبر 2018م. وفي العام التالي مُباشرةً حصل على جائزة “اليونسكو للسّلام” لعام 2019م، و”جائزة السّلام” من المجتمع الإسلامي الإثيوبي في مايو 2019م، وأخيرًا حصل آبي أحمد على جائزة نوبل للسّلام في أكتوبر من العام نفسه.([7])
خامسًا: طّريقه نحو جائزة نوبل للسّلام
إنّ مُجمل مسار آبي أحمد منذ شبابه واشتراكه في “الكفاح المُسلّح Armed Struggle” ضد نظام حكم منجستو هيلاميريام، وبعدها خدمته في قوات الدفاع الإثيوبيّة وابتعاثه ضمن قوات حفظ السّلام الأُممية في رواندا في أعقاب حرب الإبادة الجماعيّة، ثم اشتغاله بالسياسة ودأبه على نيل درجات علميّة أرفع بحصوله على درجتي ماجستير ثم الدكتوراه في دراسات السّلام والصّراع؛ كل ذلك أوصله لأن يُفكّر في أن يخطو خُطوات بدت شبه مستحيلة بالنظر لمُعطيات بيئته المليء بالصّراعات وبالنزاعات الحدوديّة في منطقة القرن الإفريقي.
على سبيل المثال، كانت فكرة التسوية السلميّة للنّزاع حول بادمي الحدوديّة بين كل من إثيوبيا وإريتريا بعيدة المنال، والتي كانت قد حُسمت على الورق فقط من خلال التحكيم الدولي في عام 2002م كونها تتبع إريتريا؛ واستمرت الحكومات الإثيوبيّة المتعاقبة في رَفْض تنفيذ قرار التحكيم، وبالتالي استمرار حالة اللاسلم واللاحرب بين البلدين، حتى جاء آبي أحمد ليبادر بتسوية النزاع الممتد، وتسليم بادمي إلى إريتريا، والتوقيع على اتفاق سلام وُصف بـ”التاريخي” بين البلدين([8]) بقيادته جنبًا إلى جنب مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، فضلًا عن الإصلاحات السياسيّة التي قام بها، وتنفيذه أجندة داخليّة من شأنها تمكين المرأة، وعمل مُصالحة وطنيّة، وإلغاء الرقابة على الصحافة؛ من بين أُمور أخرى تقع جميعها ضمن الإصلاحات المؤسسيّة.
يُلاحَظ أن كل هذه الإرهاصات كانت في السنوات السابقة على ترشّحه لنيل جائزة نوبل للسّلام، وهو ما دفع اللجنة المعنيّة لأن ترى فيه قائدًا شابًّا لدولة محوريّة في منطقة القرن الإفريقي، اشتغل في الحرب وفي السّلام معًا، واستطاع -خروجًا على المألوف في بيئته المُحيطة- السير نحو استتباب الأوضاع، وتعزيز السّلم والأمن بالمنطقة؛ من خلال تسوية القضايا العالقة، فضلًا عن مساعيه الحميدة في دول الجوار مثل السّودان وجنوب السّودان وجيبوتي؛ من أجل مساعدتهم على الوصول لتسويات سلميّة لصراعاتهم الداخليّة والبينيّة.
المحور الثاني
أبعاد التآزُر: MEDEMER في فكر ووجدان آبي أحمد
يُسلّط هذا المحور الضوء على ماهيّة التآزُر كقضيّة أساسيّة في فكر ووجدان آبي أحمد، وأبعاده، وإلى أيّ مدى يُراهَن عليه من أجل النهوض بإثيوبيا والقارة الإفريقية، ومن ثم اقترابه من الزعامة الوطنية والإقليمية التي يتطلّع إليها.
رمزيّة التآزر (MEDEMER) في الفكر والحركة بالنسبة لآبي أحمد
سعى آبي أحمد لإسباغ رمزيّة ما على مُجمل أفكاره، تدور بصفة عامّة حول مدلول كلمة “MEDEMER” والتي تعني بالأُوروميّة “تآزُر”؛ حيث اتخذها أيديولوجيّة فكريّة أولًا، وقام بتأليف كتاب بذات العنوان (MEDEMER)، أعقبه كتاب آخر، وأيضًا كإطار حركي يبني مشروعه السياسي وأفكاره ورؤاه بناءً عليه.
أولًا: كتاب التآزر (MEDEMER)
قام آبي أحمد بتأليف كتاب أسماه “التآزر” في بداية حُكمه كرئيس وزراء إثيوبيا، أطلقه بحضور حوالي 8000 إثيوبي بينهم كبار مسؤولي الدولة في قاعة الألفيّة بأديس أبابا في أُكتوبر 2019م([9]). الكتاب يتكون من 280 صفحة، وموجّه بالأساس للتعريف بمفهوم التآزُر، وإمكانية اعتماده ككلمة مفتاحية لتسوية قضايا عديدة عالقة؛ من بينها أزمة الاندماج الوطني في إثيوبيا في ظل وجود حوالي 80 إثنية، فضلًا عن العمل وفق نظام الفيدراليّة الإثنية الذي يُقسّم إثيوبيا إلى 9 أقاليم بين أورومو وتيجراي وأمهرا وبني شنقول والعفر.. إلخ. على أن يتم توجيه عائدات الكتاب الصّادر بثلاث لغات: الإنجليزيّة، الأُوروميّة والأمهريّة، إلى المدارس الأكثر فقرًا في أنحاء إثيوبيا.([10])
من وجهة نظر آبي أحمد؛ يرى أنّ تحدي الاندماج الوطني هو التحدي الرئيس الذي إن عُولِجَ على نحوٍ بنَّاء سيسهم في علاج تحديات أُخرى عديدة. يطرح آبي أحمد في الكتاب فلسفته تجاه العديد من القضايا ذات الصّلة من خلال كلمة مفتاحيّة يرغب في أن يكون لها رمزيّة مرتبطة به هو، ألا وهي “التآزر MEDEMER”.
يظهر من غلاف الكتاب ابتسامة عريضة تعلو وجهه وهو ينظر إلى جهة اليمين، الغلاف يُسلّط الضّوء فقط عليه دون أيّ مؤثّرات أُخرى، وفي تقدير الباحث؛ تفاصيل الغلاف مقصودة وكأنه يرغب في إيصال رسالة مفادها الشّعور بالملكية (Ownership) تجاه مفهوم التآزر، وأنهما متمازجان إلى الدرجة التي توضع صورته للتدليل عليها، والعكس، تُذكَر هي للتدليل على فلسفته، إلى أن يصل لمرحلة تُطلق فيها جنبًا إلى جنب مع اسمه للإشارة إلى فلسفته الفكريّة تجاه العديد من القضايا مثل “تآزر آبي أحمد MEDEMER’s Abiy Ahmed” أو بالتبادل، بحيث تُطلق وحدها فتُشير إليه، أو يُطلق اسمه هو فتُستدعى من تلقاء نفسها في السياق.
وما يُعضّد من صحّة تقدير الباحث في هذا الجانب هو غلاف كتاب آخر صدر مؤخرًا لآبي أحمد، أسماه “جيل التآزر Generation MEDEMER”؛ يؤكّد غلافه على ذات الرمزيّة بأنه ومفهوم التآزر مُتمازجان، وأنّ مفهوم التآزر بالنسبة له ليس مفهومًا عابرًا ومُحددًا في إطار مُعين أو نطاق مُعين، بل هو مفهوم جامع وشامل لمجمل فلسفة آبي أحمد الفكريّة تجاه العديد من القضايا السياسيّة العالقة، ومنها الريادة الإثيوبية والإفريقية وإدارة التعددية الإثنية والدينية، وتمكين الفئات المُهمّشة والمُستضعَفة مثل المرأة والأطفال وكبار السّن، فضلًا عن مُكافحة الفساد.
ما هو جوهر التآزر “Medemer” في ثلاثيّة كتب آبي أحمد؟
في مُقابلة إذاعية أُجريت مع آبي في سبتمبر 2019م، أوضح فيها أنّ جوهر التآزر في فِكره ووجدانه يدور حول ما يلي: ” It is a lens through which we see ourselves and the world. It begins with the idea that nothing is full, there is always something lacking in individual or social life. For instance, let’s look at the family. They wish for their child to get an education. When s/he graduates, they wish s/he will get a good job, then start a family, have children, if all are one gender, then strive to have the opposite gender and so on. There is no end. There will always be something missing. We can meet our ever-changing needs by cooperating with and enlisting the help and support of others. So, humans must operate by balancing an existence based on cooperation and competition”([11])؛ أي أنّ التآزر بالنسبة له بمثابة عدسة، يرى الإنسان من خلالها نفسه والعالم، ويبدأ في التفكير بأنه لا يوجد شيء مُكتمل، فهناك دائمًا شيء ينقصه كفرد أو كمجتمع. على سبيل المثال حينما ننظر لبنيان الأُسرة، نجد أنّ كل أسرة ترغب في تعليم أطفالهم إلى أن يتخرّجوا، وبعدها يُحاولون البحث عن وظيفة لهم، ومن ثمّ يتطلّعون لتكوينهم أُسرًا جديدة عن طريق إيجاد شُركاء حياة وإنجاب أطفال، وهكذا إلى ما لا نهاية، دائمًا سيكون هناك شيء غير مُكتمل يسعى الإنسان لأن يُكمله بالآخر، لذا يمكننا تلبية احتياجاتنا المُتغيّرة باستمرار من خلال التعاون مع بعضنا البعض ومساعدة ودعم بعضنا البعض، ومن أجل ذلك يتحتّم على البشر الموازنة بين التعاون والمُنافسة.
فضلًا عن جوهر التآزر في مؤلّفات آبي أحمد.. ما هي الخُطوط الفكريّة العريضة في كتاباته الأخرى وخطاباته؟
جنبًا إلى جنب مع كُتبه الثلاثة القابلة للزيادة، وخطاباته في مُختلف المناسبات الوطنية والإقليميّة والتي يستغلّها للحديث أكثر عن فلسفته الخاصة ورؤاه تجاه العديد من القضايا الوطنيّة والإقليميّة، نجد على سبيل المثال 4 أوراق منشورة بها دلالات معينة يمكن استكشافها:
الورقة الأُولى بعنوان: “تعهُّد لإفريقيا A Pledge for Africa“([12])
نشر آبي أحمد هذه الورقة في الأشهر الأولى لجائحة كورونا، وبالتحديد في شهر مايو 2020م واستعرض من خلالها الأوضاع الداخلية لأغلب بلدان القارة الإفريقية، وعدم قدرتها من الناحية العملية على الاستجابة لفكرة “الإغلاق”؛ بهدف تحجيم الإصابة آنذاك بالفيروس، وعرض في الوقت نفسه فكرة مؤدّاها أنّ الدول المتقدمة عليها التزام بحق هذه الدول المأزومة بتقديم يد العون والمساعدة لها، لا أن تطلب منها الاستجابة لأمور خارجة كُليةً عن قدرتها مثل الإغلاق.
ويُكمل آبي أحمد: الدول الغنية وقادتها شبه منفصلين عن الواقع، ففي 34 دولة من أصل 45 دولة في إفريقيا جنوب الصّحراء يصل حجم الإنفاق الصحي للفرد سنويًّا حوالي 200 دولار، فضلًا عن دفع تلك البلدان على خدمة الدين الذي هو بمثابة الأثر السلبي للاقتراض من الخارج.
ينتقل آبي أحمد في ذات الورقة من التنديد بالنّهج الغربي المتبع ضد إفريقيا فيما يخص تراكم الديون ومطالبتها بالاستجابة للإغلاق؛ إلى وضع حلول بنّاءة من بينها إسقاط الديون ولو بصورة جُزئية عن أكثر البلدان الإفريقيّة تضرُّرًا. ويختم آبي، بدعوة الجميع للتآزر والمرور من الجائحة معًا بسلام، عن طريق مد يد العون من الدول الغنية إلى الفقيرة والمُعدمة، وإيصال المساعدات الطارئة لها، وبذل الحد المُستطاع عليه مِن قِبَل الدول النامية والأقل نموًّا؛ بحيث يكون قد سلّط الضوء على مفهوم التآزر ولكن بصورة عالميّة هذه المرة في مواجهة جائحة استعصت على الحل، وعانى منها العالم بأسره، وليس فقط ضمن الإطار الوطني أو الإقليمي كما بدأها في الإشارة الأُولى لكتابه، وكأنّ التعهُّد الذي عنون به ورقته؛ تعهُّد مُشترك بالتآزر فيما بين البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء.
الورقة الثانية بعنوان: “إنقاذ جيل جائحة كورونا Saving Generation COVID“([13])
بعد شهرين تقريبًا من نشر الورقة الأولى، نشر آبي أحمد ورقة ثانية خصّصها للحديث عن مُعاناة الأجيال الجديدة التي عاصرت جائحة كورونا والمُقدّرة بنحو 1.6 مليار طفل حول العالم، وانعكست حالة الإغلاق، فضلًا عن المخاوف المُصاحبة لتفشّي الفيروس، على صحتهم النفسية والذهنية والبدنية كذلك. يجادل آبي أحمد في نفس الورقة: The oft-repeated idea that COVID-19 is “the great equalizer” is a myth. There is no equality of suffering or equality of sacrifice during a pandemic that is disproportionately hurting the poorest and most vulnerable؛ أي: إنّ الفكرة القائلة بأنّ جائحة كورونا جاءت لتحقيق مُعادلة وتوازن في العالم؛ لهي فكرة خُرافية لا أصل لها، فلا يمكن استساغة أن تكون هناك مناداة بتسوية المعاناة، بدلًا من العمل على إنهائها، والحد منها.
والمُلاحَظ في هذه الورقة، استدعاء آبي أحمد لفئة مُختلفة عن الفئة الأولى التي طالب بالتآزر تجاهها؛ حيث عمَّم مفهوم التآزر في الورقة الأولى من الدول الغنية تجاه الدول الفقيرة والأقل نموًا، أمَّا في هذه الورقة فخصّصها بالكامل لرفع كاهل الأجيال القادمة، والتي تضررت بشدة من جائحة كورونا، وهو ما يمكن فهم “التآزر” من خلاله بصورة أعم وأشمل؛ بحيث يطال الأجيال الصاعدة.
الورقة الثالثة بعنوان: “سلام وازدهار إفريقيا يبدآن من الوطن Africa’s Peace and Prosperity Begin at Home“([14])
بعد فترة وجيزة من نشره الورقتين الأوليين؛ نشر آبي أحمد ورقة جديدة، ولكن هذه المرة عن سُبُل تحقيق السّلام والازدهار في القارة الإفريقيّة، وأنّ هذا الأمل معقود أولًا على أن يبدأ من الداخل، ليس فقط الداخل بمفهومه القاري، ولكن بمفهومه الوطني الأكثر تحديدًا، بأن تنعم المجتمعات المحلية بالأمن والسّلام والازدهار أولًا؛ بما ينعكس إيجابًا على الأوضاع العامة للقارة الإفريقيّة.
جادل آبي أحمد في هذه الورقة مسألة التبعية للغرب، وضرورة أن يتحلّى الأفارقة بالشّجاعة للمُضيّ قُدُمًا نحو الاستقلاليّة، والمزيد من الاستقلاليّة في سبيل رخاء الشعوب الإفريقية. واستوقف الباحث عبارة بها قدر كبير من المُكاشفة بدأ بها آبي أحمد الورقة؛ ألا وهي: “For too long, Africa has been a strategic plaything of world powers. By bolstering its internal cohesion and economic integration, the continent can become a strong geopolitical force with an independent and unified voice on important global issues”. أي: لفترة مُمتدة، كانت إفريقيا بمثابة “أُلعوبة استراتيجيّة” بيد القوى الكُبرى الدولية، ومن خلال تعزيز إفريقيا لتماسُكها الداخلي وتكامُلها الاقتصادي؛ يُمكن للقارة أن تُصبح قوّة جيوسياسيّة قوية لها صوت مُستقل وموحّد في القضايا الدوليّة الكُبرى، ويُشير إلى أنّ ذلك كان لفترة طويلة امتدّت عبر التاريخ وليس فقط في الآونة الأخيرة.
استطرد آبي أحمد في الورقة، الآليات التنفيذية التي يمكن لإفريقيا أن تعتمد عليها في سبيل خروجها من التبعية للغرب، واعتمادها على نفسها، ومن بينها الجهود المبذولة في سبيل إقامة منطقة تجارة حُرة قارية بدءًا من 2015م بالتوقيع على المؤتمر التأسيسي في شرم الشيخ، ووصولًا إلى تحقيق المستويات القُصوى من التكامل الإقليمي، وتعزيز العلاقات البينيّة. وفي هذه الورقة بالذات يُلاحظ أنّ آبي أحمد حاول إضفاء بُعْد مؤسّسي لمفهوم التآزُر، نعم! ضيّق قليلًا من المفهوم؛ بحيث أشار إليه فقط في السياق الإفريقي-الإفريقي كردّة فعل من وجهة نظره على تغييب القوى الدولية الكُبرى لإفريقيا على مر أزمنة طويلة في التاريخ؛ إلا أنه ورغم ذلك أضفى على المفهوم أُطُرًا يمكن من خلالها تحقيق هذا التآزر، ومنها التمسُّك باتفاقية التجارة الحُرة القارية (AF-TFTA)، والحرص على تفعيلها.
الورقة الرابعة بعنوان: “صوب أمر سلم مُحكَم في منطقة القرن الإفريقي Towards a Peaceful Order in the Horn of Africa“([15])
في ظل اشتداد الحرب الأهلية في إقليم تيجراي، نشر آبي أحمد في مُنتصف مايو 2021م ورقة طرح فيها رؤيته للأحداث الجارية آنذاك، كانت هذه الورقة كاشفة إلى حد كبير عن زاوية الرؤية التي يُدير منها آبي أحمد الموقف، ومنها استدعاء مُصطلح “Peaceful Order”، والذي كان من الممكن أن لا يُتوقّف عنده كثيرًا؛ إلا أنّ آبي أحمد أشار لمدلوله بداخل الورقة، وما كان يقصده منه بأنّ ما يجري في تيجراي ما كان إلا استجابة لنداء غير مُعلَن نادى به شعب تيجراي من أجل تخليص الحكومة المركزيّة إياهم من جبهة تحرير تيجراي وفترة حُكمها للإقليم والتي شابها الكثير من الانتهاكات، على حد تعبيره.
عمّم آبي أحمد في هذه الورقة مسألة الأمن والسّلم الخاصّة بمنطقة القرن الإفريقي، وليس أمن وسلم إثيوبيا فقط، على الرغم من أنّ الاقتتال الدائر آنذاك كان شأنًا داخليًّا إثيوبيًّا-إثيوبيًّا، ولا مساس لمنطقة القرن الإفريقي به، بل إن الأطراف الخارجيّة المُتدخّلة فيه كانت لصالح آبي أحمد وليس ضدّه، وبالتحديد الرئيس الإريتري أسياس أفورقي والقوات الإريتريّة. لذا، يرى الباحث أن استدعاء آبي أحمد لسياق غير موجود؛ أمر مقصود في ذاته بهدف إظهار أنّ الحرب الجارية بها بُعد ماسّ بالمنطقة، وليس فقط ماسًّا بإقليم واحد ضمن أقاليم عدّة تتشكّل منها إثيوبيا.
من ناحيةٍ أُخرى، أشار آبي أحمد في الورقة ذاتها إلى ما أسماه “الالتزام بالسُّلوك الإنساني” من قِبل حكومته المركزيّة في تعاطيها مع قادة جبهة تحرير تيجراي وقواتها، وذلك في عبارة وردت نصًّا: “With a government bound by humane norms of conducts” في إشارة مُجافية للمنطق بأنّ الحكومة المركزيّة الإثيوبيّة في حربها في إقليم تيجراي مُلتزمة بالسُّلوك الإنساني الذي من المُفترض أن يتحلّى بالحد الأقصى من ضبط النفس، وبالمستوى الأعلى من الكفاءة والمهنيّة اللازمتين لاستبعاد أيّ إضرار بالممتلكات العامة والخاصة، وبتكريس الجهود نحو حماية المدنيين.. إلخ، وهو ما لا يمكن تحققه في ظل حرب أهليّة امتدت لنحو عامين ووسط حالة من التعتيم الإعلامي الداخلي والخارجي على حد سواء، إلى الدرجة التي لا يمكن الجزم بعدد الضحايا أو الجرحى أو النازحين من وإلى الداخل الإثيوبي أو المُهجّرين من الداخل الإثيوبي وإلى دول الجوار.
في هذه الورقة بالذات، وجّه نقدًا لاذعًا لجبهة تحرير تيجراي، وأنّها تتمتّع بـ”الشوفينيّة العِرقيّة”، وأوضح صراحةً بأنّ التخلُّص “للأبد” من الفسدة والديكتاتوريين، ويَقصد قادة جبهة تحرير تيجراي بطبيعة الحال، سيمكّن البلاد من مُستقبل مُزهر؛ وهو كلُّه خطاب يُجافي أوليّات الخطاب السّلمي الذي نال على إثره جائزة نوبل للسّلام؛ فالحديث عن التخلُّص من شُركاء في وطن واحد لا يعني إلا إيعاز بحرب إبادة، وإلقاء التُّهَم على جبهة تحرير تيجراي بأنّها السبب في تأليب الرأي العام العالمي على إثيوبيا؛ مُتناسيًا الدور المُشترك للحكومة المركزيّة الإثيوبيّة جنبًا إلى جنب معه؛ يعتبر نهجًا مُجافيًا للواقع؛ حيث تتحمّل كل الأطراف في مواقف مثل هذه المسؤولية الكاملة عن جميع الجرحى والقتلى والمُشرّدين من كل الأطياف والإثنيات والأقاليم الإثيوبية على حد سواء، ودونما تمييز ولا تصنيف بين وطنيين وأعداء ضمن وطن واحد؛ وهو ما يُعارض مفهومه الخاص بالتآزر؛ وكأنّه في هذا السياق بالذات يحصر التآزُر في أضيق نطاق، وهو التآزر بين من يتفق معه في الرأي في الداخل الإثيوبي فقط، أمّا مُعارضوه، وعلى رأسهم قادة إقليم تيجراي والقوات المتحاربة، فهم غير مندرجين تحت التآزر المأمول.
جنبًا إلى جنب مع المؤلّفات والأوراق المنشورة.. ماذا عن الخُطَب؟
يستغل آبي أحمد الخُطب في مُختلف المناسبات الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة للحديث بصور مُباشرة وغير مُباشرة عن فلسفته الفكريّة تجاه بعض القضايا ذات الصّلة، والمُندرجة تحت قضيّة التآزر كقضيّة أساسيّة في فِكره ووجدانه؛ اختار منها الباحث خطابين أورد فيهما بعض النقاط ذات المدلول الواضح تجاه قضيّة التآزر.
الخطاب الأوّل: كلمته بمناسبة منحه جائزة نوبل للسّلام 2019م([16])
في 10 ديسمبر 2019م، وبالتحديد في مدينة أوسلو بالنرويج، ألقى آبي أحمد كلمة استمرت قرابة 23 دقيقة تحت عنوان: “Forging A Durable Peace in the Horn of Africa أو تشييد سلام راسخ في منطقة القرن الإفريقي”. تحدّث فيها عن أفكار ورؤى عديدة ضمن فلسفته التي يُحاول الترويج لها في مُختلف المناسبات الوطنية والإقليميّة؛ على سبيل المثال:
– أوضح في بداية كلمته الشُّكر للّجنة المُنظِّمة على اختياره ومنحه جائزة نوبل للسّلام، بعد مساهمته في وضع حد لحالة اللّاسلم واللّاحرب بين دولته وإريتريا، وقام بشُكر الرئيس الإريتري أسياس أفورقي بسبب دوره في الوصول لاتفاق واصفًا إياه بـ”الشّريك I accept this award on behalf of my partner and comrade-in peace, President Asaias Afeworki”.([17])
– وصف كم هو حجم الدمار والسّوء الذي تُخلّفه الحروب، أيّ حروب في العالم، وليس فقط ما كانت بين الجارتين إثيوبيا وإريتريا، وأردف: “You see, I was not only a combatant in War, I was also a witness to its cruelty and what it can do to people. War makes for bitter men, heartless and savage men” أي: كما تروا، لم أكُن مُجرّد جُنديّ يُشارك في هذه الحرب، ولكن كُنتُ شاهدًا على مدى السّوء الذي طالته بالأبنية والأنفس إلى الدرجة التي تجعلها تصنع رجالًا قُساة قلوب، وبهم قدر من الوحشية الخالية من أيّ رحمة.([18])
– ربط النزاع الحدودي بين إثيوبيا وإريتريا حول منطقة بادمي، بأمن وسلم منطقة القرن الإفريقي؛ وهو مدخل فكري به قدر كبير من الذكاء في الواقع؛ لأن أحد أهم الأسباب التي رُشّح على إثرها لنيل جائزة نوبل هو إمكانية أن يكون صانع سلام في منطقة القرن الإفريقي التي هي بحاجة ماسَّة لزعامة تقود حلحلة وحل إشكاليات عديدة مرتبطة بالأمن والسّلم في المنطقة؛ منشؤها ليس فقط أسبابًا سياسيّة واقتصاديّة، ولكن كذلك أسباب بيئيّة بسبب تداعيات تغيُّر المناخ وفشل المواسم الزراعيّة المتعاقب وغيرها؛ حيث أورد آبي أحمد نصًّا: “As it was, the war and the stalemate that followed were a threat for regional peace, with fears that a resumption of active combat between Ethiopia and Eritrea would destabilize the entire Horn region. And so, when I became Prime Minister about 18 months ago, I felt in my heart that ending the uncertainty was necessary”؛ أي: شكّلت الحرب والمأزق الذي أعقب ذلك تهديدًا للسّلم الإقليمي، في ظل وجود مخاوف من أنّ أيّ استئناف للقتال بين إريتريا وإثيوبيا سينعكس بالسّلب على منطقة القرن الإفريقي بأكملها؛ وهو ما دفعني عندما أصبحتُ رئيسًا للوزراء لإنهاء حالة اللّايقين، واعتبارها مسألةً ضروريّة لا يمكن من دونها العيش معًا بسلام وأمان.([19])
– قام بالدعاية المُباشرة لكلمته المفتاحيّة التي تعبّر عن فلسفته الفكريّة في الحياة بصفة عامة، ألا وهي “التآزر MEDEMER” بشقّيها الفكري والحركي على حد سواء؛ حيث قال ما نصّه: ” Medemer, an Amharic word, signifies synergy, convergence, and teamwork for a common destiny. Medemer is a homegrown idea that is reflected in our political, social, and economic life. I like to think of “Medemer” as a social compact for Ethiopians to build a just, egalitarian, democratic, and humane society by pulling together our resources for our collective survival and prosperity”؛ أي: تعني كلمة ميديمير، أمهريّة الأصل، التآزر والتقارب والعمل الجماعي المُشترك من أجل مصير مُشترك، هذه الكلمة تنعكس على مختلف مناحي حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة؛ أُحبُّ الترويج لميديمير باعتبارها ميثاقًا اجتماعيًّا للإثيوبيين لبناء مجتمع عادل ومُتكافئ وديمقراطيّ وإنسانيّ؛ من خلال تجميع مواردنا من أجل عيشنا معًا، وازدهارنا كذلك معًا.([20])
ثم ينتقل آبي أحمد في كلمته إلى التعريف بالجانب الحركي من كلمة التآزر “Medemer” فيقول: ” In practice, Medemer is about using the best of our past to build a new society and a new civic culture that thrives on tolerance, understanding, and civility. At its core, Medemer is a covenant of peace that seeks unity in our common humanity. It pursues peace by practicing the values of love, forgiveness, reconciliation, and inclusion”؛ أي: ومن الناحية العمليّة، يدور مفهوم ميديمير حول استغلال ماضينا على نحو أفضل لبناء مُجتمع جديد وثقافة مدنيّة جديدة تزدهر وتقوم على التسامح والتفاهم والكَياسة؛ فالمفهوم في جوهره ميثاق سلام يسعى إلى تعزيز الوحدة، والتأكيد على الرابط الإنساني المُشترك، ويسعى كذلك إلى ترسيخ السّلام؛ من خلال إعلاء قيم الحُب والتسامح والمُصالحة والاندماج.([21])
– يختم آبي أحمد كلمته بعرض فكرتين عن التعايش السّلمي، ولكن من منظور ديني مسيحي-إسلامي؛ حيث يقول: ” I am inspired by a Biblical Scripture which reads: “Blessed are the peacemakers, for they shall be called the children of God.” Equally I am also inspired by a Holy Quran verse which reads: “Humanity is but a single Brotherhood. So, make peace with your Brethren””؛ أي: أستلهمُ آيةً من الكتاب المُقدَّس في العهد القديم تقول: “طُوبى لصانعي السّلام؛ لأنّهم أبناء الله يدعون”، وأستلهم في الوقت نفسه آيةً من القرآن الكريم في سُورة الحُجُرات تقول أيضًا: {إِنَّمَا المؤمنون إخوةٌ فَأَصْلِحُوا بَينَ أخَوَيْكُم}.
الخطاب الثّاني: كلمته في القمّة الـ35 للاتحاد الإفريقي في فبراير 2022م([22])
انتهز آبي أحمد هذه الفرصة للحديث عن الجهود المبذولة في سبيل التعافي من تبعات الإغلاق والآثار السلبية المترتبة على جائحة كورونا وانعكاساتها بالغة السّوء على القارة الإفريقية؛ إلا إنه في الوقت نفسه لم يُفوّت الفرصة أمام استدعاء بعض الحنين للماضي؛ وبالتحديد فيما يخص إحياء دعوة حركة الجامعة الإفريقية (Ban Africanism) بضرورة الاصطفاف الإفريقي على قضايا محل توافق، ومِن ثَم لَمّ الشتات، وتكوين جبهة إفريقية واحدة و/أو موحّدة.
من بين ما أشار إليه في تلك الكلمة، عبارة نصّها: “Our union has committed to undertake the ambitious plans designed to transform our continent and create the Africa we want, we want a prosperous Africa based on sustainable and equitable development. We want a politically united continent that aspires to fulfill the ideal of fun Africanism and the vision of an African renaissance fulfilling our aim of birthing the Africa we want through robust implementation of agenda 20s history and its flagship project will require us to make extraordinary efforts collectively”؛ أي: لقد التزم الاتحاد الإفريقي بتنفيذ الخُطط الطموحة والمُصمَّمة خصّيصًا لتحويل مسار قارتنا واستدعاء إفريقيا التي نُريد، نحنُ نُريد إفريقيا مُزدهرة على أساس التنمية المُستدامة والعادلة. نُريدها قارة موحّدة سياسيًّا، وتطمح إلى تحقيق نهضة إفريقيّة تُركّز على المُثُل العليا الإفريقيّة، ومن ثم الإيذان بولادة إفريقيا التي لطالما تم الحديث عنها في أجندة عشرينيات القرن الماضي (ويقصد وفق أجندة حركة الجامعة الإفريقيّة)، ومشروعها الرائد؛ وهو ما سيتطلّب منّا جميعًا بذل الجهد بشكل جماعي لتحقيق ذلك.
ويُلاحَظ من هذه العبارة، تكراره لمسألة الازدهار كإحدى الكلمات المفتاحية التي لا يترك مجالًا إلا ويذكرها فيه، والإشارة لمسألة التنمية المُستدامة؛ بحيث تتم مُعالجة الخلل بصورة مؤسسية غير عارضة، تضمن استدامة الحلول لمختلف القضايا الإفريقية ذات الصلة، والأهم من وجهة نظر الباحث؛ تركيزه على الحنين للماضي، فيما يخص على وجه التحديد أجندة حركة الجامعة الإفريقية في عشرينيات القرن الماضي، والحركة الدؤوبة التي قامت بها الحركة من أجل لم الشّتات الإفريقي، ومُحاولة بناء توافق عام إفريقي؛ نجح بالفعل وأنتج إطارًا مؤسّسيًّا عامًّا مهمًّا للغاية هو منظمة الوحدة الإفريقيّة في 25 مايو 1963م، وهي ما تحوّلت لاحقًا إلى الاتحاد الإفريقي مطلع الألفية الجديدة.
كيف يتحقّق السّلام من منظور فلسفة التآزر في فكر آبي أحمد؟
في خطاب نيله جائزة نوبل، وبعد أن ناقش العديد من القضايا الفكريّة ذات الصّلة، طلب إفساح المجال لمُشاركة بعض المعتقدات التي يراها أقرب إلى مُحرّكات دفع بالنسبة له في القيام بدور فعّال في قضايا السّلم والأمن في إثيوبيا ومنطقة القرن الإفريقي؛ حيث قال: ” Allow me to share with you a little about the beliefs that guide my actions for peace. I believe that peace is an affair of the heart. Peace is a labor of love. Sustaining peace is hard work. Yet, we must cherish and nurture it. It takes a few to make war, but it takes a village and a nation to build peace. For me, nurturing peace is like planting and growing trees. Just like trees need water and good soil to grow, peace requires unwavering commitment, infinite patience, and goodwill to cultivate and harvest its dividends. Peace requires good faith to blossom into prosperity, security, and opportunity. In the same manner that trees absorb carbon dioxide to give us life and oxygen, peace has the capacity to absorb the suspicion and doubt that may cloud our relationships”.([23])
ما معناه؛ أعتقد بأنّ هناك أمورًا معينة توجّه تصرفاتي من أجل لعب دور فعّال في بناء السّلام، اسمحوا لي بأن أُشارككم إياها؛ فالسّلام شأن من شؤون القلب، ناجم عن الحُب والحفاظ عليه عمل شاق بكل تأكيد، ومع ذلك ينبغي علينا الاعتزاز به والفخر بما أُحرز في سبيله، فشَنّ الحروب لا يتطلّب الكثير لكي يُبذل بخلاف بناء السّلام الذي يتطلّب عملًا دؤوبًا وطويل الأمد. بالنسبة لي؛ فإنّ رعاية السّلام أشبه ما تكون بزراعة الأشجار وحمايتها من الأخطار التي تتهدّدها، فالأشجار بحاجة دائمة لماء وتربة جيدة لكي تنمو وتترعرع، والسّلام كذلك يتطلّب التزامًا لا يتزعزع، وصبرًا غير محدود، وحُسن نيّة طوال عملية الزراعة إلى أن تُجنى الثمار. يتطلّب السّلام كذلك حُسن نيّة لكي يزدهر وينعكس على الأمن والفرص التي من الممكن أن يُتيحها، وهي نفس الطريقة التي تمتص بها الأشجار ثاني أُكسيد الكربون لتزويدنا بالأكسجين، ومن ثم إبقائنا على قيد الحياة؛ السّلام هو الآخر لديه القدرة على امتصاص الريبة والشّك الذي قد يُلقي بظِلاله على مختلف مناحي علاقاتنا.
ثم أكمل حديثه قائلًا: ” In return, it gives back hope for the future, confidence in ourselves, and faith in humanity. This humanity I speak of, is within all of us. We can cultivate and share it with others if we choose to remove our masks of pride and arrogance. When our love for humanity outgrows our appreciation of human vanity then the world will know peace. Ultimately, peace requires an enduring vision. And my vision of peace is rooted in the philosophy of Medemer”([24])؛ ما معناه: حينما يقوم السّلام بامتصاص الريبة والشّك من مختلف مناحي علاقاتنا، ينعكس ذلك إيجابًا في استعادة الأمل بالمُستقبل والثقة في النفس، والإيمان بالإنسانية. هذه الإنسانية التي أتحدث عنها موجودة بداخلنا جميعًا؛ إذ يمكننا زراعتها ومشاركتها مع الآخرين إذا اخترنا إزالة أقنعة الكبرياء والغطرسة، وسعينا من أجل تخطّي محبّتنا للإنسانية تقديرنا لغرور الإنسان وسعيه لتحقيق كُلّ ما يريد؛ حينها فقط سيعرف العالم السّلام. في نهاية المطاف؛ يتطلّب السّلام رؤية مُستدامة طويلة الأمد؛ ورؤيتي في تحقيق ونشر السّلام مُتجذّرة بالأساس في فلسفة التآزر “Medemer”.
المحور الثّالث
تقييم فلسفة آبي أحمد في “التآزُر: Medemer“
وبداخله تم تسليط الضّوء على تقديم نظرة موضوعيّة تجاه مجمل الأفكار التي استطاعت الدراسة الوقوف عليها، سواءً من الناحية النظرية ومدى التماسك البادي عليها، أو من الناحية الحركيّة العمليّة وما استطاع تطبيقه منها، وإلى أيّ مدى.
أولًا: من الناحية النظريّة
للوهلة الأولى وبالنّظر في مُجمل مؤلّفات آبي أحمد وأوراقه البحثيّة المنشورة فضلًا عن خطاباته؛ يرى الباحث أنّ هناك قدرًا ملحوظًا من التّماسك في مُجمل الأفكار التي يُشير إليها، خاصّةً في المُعطيات الموصّلة بطبيعة الحال إلى نتائج مُغايرة. على سبيل المُثال هو يؤمن ويصرّح بأنّ عمليّة السّلام لها بُعدان اثنان؛ بُعد داخلي يتعلّق بالإيمان بالسّلام بديلًا عن العنف والحرب أولًا، وبُعد آخر حركي يعني بذل الجهد في سبيل إرساء السّلام والمُحافظة عليه.
والأمر نفسه بالنسبة لفلسفة التآزر؛ حيث يُسوّقها باعتبارها بوّابة شاهقة، تحمل بين طياتها أبعادًا فردانيّة في علاقة الفرد بالفرد، وتحمل بين طياتها أيضًا أبعادًا مجتمعية تخص علاقة الإثنيات فيما بينها، وتحمل بين طياتها كذلك أبعادًا إقليمية ودوليّة تُعنَى بمسألة استتباب الأوضاع الأمنية وإحلال السّلم في المناطق المضطربة، بل والحفاظ عليه، والبناء على ما أُحرز في سبيله من أجل ازدهار ورخاء الأوطان.
من ناحية أُخرى، هو حتّى في أحلك الظروف التي واجهته من الناحيتين الفكريّة والعمليّة معًا مثل الحرب الأهليّة في إقليم تيجراي؛ برَّرَ ما يحدث بأن حكومته تسعى بكل ما أُوتيت من قُدرة على الالتزام بنهج السّلوك الإنساني ومحافظتها على أرواح المدنيين ومنشآتهم وأمانهم المحتوم، وظلّ يُردّد بأنّه حتى في هذه الحالة تبقى الحرب استثناءً على الأصل الراسخ المُتمثِّل في ضرورة إحلال السّلام، وأن تنعم المجتمعات بسلام حقيقي وفعّال وطويل الأمد.
يرى كذلك أن فلسفة التآزر لا يمكن تقديمها وفق إطار فكري فقط، بل لا بد أن تُنتج في ذاتها مفهومًا حركيًّا يضمن لها البقاء والبناء، لذا قام بتأليف كتابه الأحدث “جيل التآزر Generation Medemer”؛ لكي يُرسّخ من الناحية النظريّة هذا الإطار المؤسّسي لفلسفة التآزر.
ثانيًا: من الناحية الحركيّة
على الرغم من سعي آبي أحمد للسير في مسارين مُتوازيين؛ فكري وحركي معًا، فيما يخص فلسفته عن التآزر وسُبُل المُضيّ قُدمًا وفق ما تُمليه من قواعد وأُطُر حاكمة؛ إلا أنّ الجانب الحركي لدى آبي أحمد به الكثير في الواقع من التحديات؛ تحديات يكون منشؤها هو شخصيًّا في بعض الأحيان، وتحديات يُمليها الواقع إذا ما قارننا السُّلوك المتَّبع في بعض المواقف بما قال هو بنفسه وعن نفسه.
جيل التآزر (Generation Medemer) على سبيل المثال.. الإبقاء على الرمزيّة رغم التأثر بما جرى في تيجراي
المصدر: صفحة “التآزر MEDEMER” الرسميّة على منصّة التواصل الاجتماعي تويتر([25])
أطلق آبي أحمد منذ فترة وجيزة كتابه الثالث “جيل التآزر Generation MEDEMER”([26]) للإبقاء أولًا على العلاقة الارتباطية بينه وبين مفهوم الكلمة، والتي سعى لتكريسها منذ كتابه الأول “التآزر MEDEMER”، وكرّرها في أوراق منشورة وخطابات عدّة، ولكن يُلاحظ هذه المرة ومن الوهلة الأولى بالنظر لغلاف الكتاب؛ تغيُّر ملامح وجهه عن الغلاف الأول منذ أربعة سنوات فقط خلت، لا يزال وحده على الغلاف من دون أيّ تفاصيل أُخرى، ولا يزال ينظر إلى جهة اليمين، إلا أنّ ابتسامته العريضة في غلاف الكتاب الأول “التآزر” تحوّلت إلى نظرة مُغايرة بها الكثير من التفكير والتأمُّل في أمر ما؛ وكأنّه ورغمًا عنه لم يستطع تصدير نفس الصّورة الحالمة على غلاف الكتاب الأول، بالنظر لوجود بعض المتغيّرات على الأرض؛ يأتي على رأسها تَبِعات الاقتتال الأهلي في إقليم تيجراي بين الحكومة المركزيّة بقيادته ضد الجنرال دبرصيون جبر ميكائيل وقادة جبهة تحرير تيجراي؛ تلك الحرب الأهلية التي تخطّت حاجز العامين وأوقعت عددًا غير معلوم من الضحايا والنازحين والمُشرّدين؛ إلى الدرجة التي أوقعته هو شخصيًّا واللجنة المعنيّة باختيار المرشحين لجائزة نوبل للسّلام تحديدًا في حرجٍ شديدٍ؛ إذ كيف يُتصوَّر أن ينال أيّ أحد جائزة نوبل للسّلام، أرفع وسام في العالم، وبعدها بأشهر قليلة يقود حربًا أهليّة تستمر لما يزيد عن عامين، وتُخلِّف كمًّا من الدمار فضلًا عن الضحايا والجرحى والمُشرّدين في الداخل، فضلًا عن حركة اللجوء إلى دول الجوار، وما أنتجته من إشكاليات أخرى بداخل تلك البلدان؛ وهو ما كان معاكسًا تمامًا لما هو مأمول من نيله الجائزة ومحافظته على الأمن والسّلم في منطقة القرن الإفريقي.
المصدر: صورة دعائيّة رسميّة لكتاب جيل التآزر الصّادر مؤخرًا لآبي أحمد([27])
كيف يمكن يا آبي أحمد أن تُصنَّف كصانع سلام وتُشير لـ”الأعداء الأجانب” في دعاية كتابك الجديد؟
في ضوء حصول آبي أحمد على درجة الدكتوراه في دراسات السّلام والصّراع، كان لافتًا للنظر أن يكون أحد المنشورات الدعائيّة الرسميّة للكتاب هو هذا المنشور بالأعلى، والذي قيل فيه:”Societies that have managed to leave aside small differences and focus on what they have in common have been able to build strong states, maintained their independence from foreign enemies and established prosperous and civilized nations”؛ أي أن: المُجتمعات التي تمكّنت من تنحية الخلافات العابرة جانبًا، وركّزت على القواسم المُشتركة فيما بينها؛ تمكّنت نتيجةً لذلك من بناء دول قويّة، وحافظت على استقلالها بمنأىً عن “الأعداء الخارجيين”، وأقامت دولًا مُزدهرة ومُتمدّنة.
ويبدو من مقولة آبي أحمد، أنه يُحاول الدعاية لمسألة تنحية الخلافات العابرة، وإدارة التنوُّع بصورة بنّاءة من خلال التركيز على القواسم المشتركة التي هي بطبيعتها أكثر بكثير من دوائر الانقسام، والحال نفسه بالنسبة لفكرة الدولة القويّة في مُخيلة آبي أحمد كونها ضرورة يستدعيها الواقع الإثيوبي والإفريقي في ظل انتشار الأسلحة الصغيرة والمتوسطة وغياب مفهوم الدولة عن العديد من البلدان، والحال نفسه بالنسبة للاستقلال وقيام دول مُزدهرة ومُتمدّنة.. إلا أنّ ما كان لافتًا للنظر واستوقف الباحث كثيرًا في الواقع؛ هو إشارته لمسألة “الأعداء الأجانب”؛ والتي تُشير في تقدير الباحث إلى عدة نقاط:
النُّقطة الأولى: هو لا يزال مهمومًا بما جرى في الحرب الأهليّة في تيجراي؛ لذا لم يكن قادرًا على الفصل بين السياق الذي يُوجّه فيه دعوةً خالصة للداخل الإثيوبي وبين السياق الذي يُوجّه فيه إشارة ما للخارج؛ ففي هذه العبارة خَلَطَ بين الداخل والخارج؛ بحيث أظهر للداخل أن هناك أعداء غير إثيوبيين يتربّصون بالبلاد؛ وأنّهم جميعًا نتيجةً لذلك مدعوُّن للتكاتف والتآزر؛ للخروج معًا بسلام من هذه الإشكالية.
النُّقطة الثانية: أظهر للخارج بمقولته تلك أن ما قيل بشأن عدم أحقيته جائزة نوبل للسّلام، وأنّ اختياره جعل الجميع في ورطة؛ فلا يمكن تناسي ما حدث في تيجراي، ولا يمكن في المقابل مُحاسبته على ما جرى في تيجراي وولادة سابقة هي الأولى في تاريخ جائزة نوبل بإمكانية أن تتم مُعاقبة شخص بجرائم حرب أو إبادة جماعيّة أو جرائم ضد الإنسانيّة؛ ومنذ أشهر قليلة قبل اندلاع المواجهات التي على إثرها أُدين بذلك؛ كان قد حصل على جائزة نوبل للسّلام. خاصّةً في ظل وجود تحالف مُعلَن بين آبي أحمد وبين الرئيس الإريتري أسياس أفورقي؛ صاحب أطول حكومة مؤقتة في التاريخ الحديث منذ مطلع التسعينيات وحتى الآن، مع ما يشوب فترة حُكمه من اتهامات عديدة بالفساد والاضطهاد والديكتاتورية.([28])
النُّقطة الثالثة: السّر من وراء نيله جائزة نوبل للسّلام ليس فقط دوره في إنهاء حالة اللّاسلم واللّاحرب التي امتدت لما يقرب من عشرين عامًا بين إثيوبيا وإريتريا، وإنما كان مأمولًا أن يكون بمثابة صانع سلام في منطقة القرن الإفريقي المأزومة، وبالتالي خطابه الخاص بوجود أعداء أجانب؛ وتصريحه بفكرة وجود أعداء من الأساس فضلًا عن تخصيصه إيّاهم بكونهم أجانب؛ خطاب مُجافي لمُسلّمات في العقل الجمعي الخاص بدراسات السّلام والصّراع؛ والتي تنظر إلى جميع البشر باعتبارهم قرناء وليسوا أعداء، مهما بلغت درجة الصّراع تفاقمًا وتعقّدًا في بعض الأحيان، بما في ذلك الصّراعات المُستعصية على الحل، والتي فاقت في مداها كل مساعي حلّها أو تسويتها سلميًّا.
إلى أيّ مدى يُسهم كتابه الجديد “جيل التآزر Generation Medemer” في تعزيز الجانب الحركي جنبًا إلى جنب مع الفكري؟
الكتاب مكوّن من 3 أجزاء أساسيّة، اختصرها البروفيسور أليمايهو ج. ماريام([29]) فيما يلي: ” The book is organized in 3 parts and 10 chapters: In Part One, entitled the “conception and chain of generations,” the author renders his seminal notions of “Medemer”, “generation” and “paradigm” and describes the nature, relationship and dynamics of Ethiopian generations since the mid-19th century. In Part Two, he describes the “generations path and journey.” Here the author discusses his notions of a “generational personality and identity and advancement of generations through imaginative knowledge and ethical integrity,” In Part Three, the author focuses on the rise of the new “Medemer Generation”. Here he discusses “Medemer” as a generation-building formula, delineates the composition, characteristic features and orientation of the new Medemer Generation. In chapter 10 of Part Three, the author presents a layered, intriguing and thought-provoking geopolitical analysis of Ethiopia and explores the opportunities and challenges facing Medemer Generation within the broader Middle Eastern context.”
ما معناه: قُسّم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء وعشرة فصول، تحدّث فيهم آبي أحمد عن مفهوم التآزر وفكرة الأجيال المتعاقبة في التشبُّع من هذا المفهوم والعمل وفقه، مقدّمًا مفاهيمه الأساسيّة بخصوص الكلمة ذاتها ومفهوم الجيل ومفهوم النموذج المعرفي “Paradigm” الذي يطمح في أن يُوصل التآزر إليه.
جنبًا إلى جنب مع ما تقدّم؛ يُحاول آبي وصف طبيعة العلاقات وحركيتها فيما بين الأجيال الإثيوبية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومسار تلك الأجيال ورحلاتها، ومفهومه عن شخصيّة وهُويّة الأجيال ومدى تقدُّمها من خلال المعرفة والنزاهة الأخلاقيّة. ويعود مرة أُخرى لربط ذلك بجيل تآزر، وأمله في ظهور جيل جديد يؤمن بها، ويجعلها بمثابة بوابته التي يمر من خلالها إلى العالم.
وأخيرًا يُقدّم آبي تحليلًا جيوسياسيًّا متعدد الطبقات للتفكير لصالح إثيوبيا واستكشاف الفرص والتحديات التي تواجه جيل التآزر المأمول؛ في سياق الشرق الأوسط الأوسع نطاقًا. المُلاحظة الجديرة بالذكر، هو دأب آبي أحمد على الربط بين الفكر والحركة، ومحاولته تقديم فلسفة تآزر باعتبار أنّها لا يمكن النظر إليها فكريًّا بمعزل عن الحركة، ولا حركيًا بمعزل عن الفكر.
مُحاولات جادة ولكن لا تزال هناك إشكاليات في الجانب الحركي لآبي أحمد
نجح آبي أحمد في الربط بين الفكر والحركة من الناحية النظرية، ليس فقط من خلال كتابه الأخير عن جيل التآزر، ولكن في إنشائه أيضًا لموقع إلكتروني خصّيصًا لرعاية فلسفة التآزر من الناحيتين الفكرية والحركيّة([30])، بل ونشاطه في إبراز التقدُّم المُحرز في فلسفة التآزر التي اتخذها سبيلًا من خلال منشورات دوريّة، كان آخرها كتاب: “خمس سنوات من المُضيّ قُدُمًا في طريق التآزر”([31])
المصدر: قسم الإعلام بالموقع الرسمي لمكتب رئيس الوزراء الإثيوبي
يعتني الموقع بإظهار كافّة الجهود الفكريّة والحركيّة طوال خمس سنوات حكم فيهم آبي أحمد إثيوبيا، وما استطاع تحقيقه منها بفضل فلسفته الخاصّة بالتآزر، والتي هي أعمّ وأشمل من أن تُحصَر في أبعاد معينة دون أخرى؛ بل هي ممتدة ومتشعبة في مختلف الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة وحتى الأمنية والعسكريّة، كما يرغب في ترسيخها.
تداعيات الحرب الأهليّة في تيجراي لا تزال مُهدّدًا كبيرًا في الاستجابة لأفكار ورؤى آبي أحمد، خاصّة في ظل تنامي أصوات دوليّة([32]) تضع ما يقوله تحت الاختبار؛ بالمقارنة مع ما يصدر عنه من تصرفات ومواقف، ليس فقط في مسألة الحرب الأهلية في تيجراي، ولكن أيضًا في موقفه المتعنّت في أزمة إدارة المياه في منطقة حوض النيل، وقضيّة سد النهضة التي لا تزال عالقة، هل هي مجرد شعارات برّاقة يُصدرها لتحقيق مكاسب سياسيّة، أم أنه بالفعل يؤمن بها، وعليه حينها إثبات ذلك في مواقفه وتصرُّفاته المختلفة؛ كي لا تتحوّل الهالة التي صاحبت فترة تولّيه الحكم إلى مدعاة لكي يكون ديكتاتوريًّا جديدًا يُضاف إلى قائمة طويلة في هذا الصّدد تُعاني منها الكثير من البلدان الإفريقيّة.([33])
جنبًا إلى جنب مع المُشاهدة، وتحليل المواقف مقارنةً بالأفكار والرؤى المُعبّر عنها؛ هناك شهادة لا يمكن إهمالها([34])؛ هذه الشّهادة أفردت لها (BBC) تقريرًا موسّعًا لأحد الدبلوماسيين الإثيوبيين السابقين شغل منصب القنصل العام لإثيوبيا في لوس أنجلوس في 2018م، اسمه كيدان بُرهان ماريام، كانت الوكالة قد أجرت مكالمة هاتفية معه تحدّث فيها عن مُزاملته لآبي أحمد منذ 2004م ومعاصرته إياه في ظل إيمانه حينها بالكفاح المُسلّح (Struggle War)، قائلًا: “على الرغم من الإصلاحات السياسيّة التي قام بها آبي أحمد في بداية فترة حكمه؛ إلا إن لديه نهمًا وحرصًا على السُّلطة، ومن ثم اتخذ مسألة صُنع السّلام بمثابة ذريعة للوصول لمسعاه، والبروز كزعيم محتمل في الداخل الإثيوبي وفي منطقة القرن الإفريقي، وهو ما دفعه للاستقالة من منصبه كنائب لرئيس البعثة في السفارة الإثيوبيّة في واشنطن بعد اندلاع الحرب الأهليّة في تيجراي، بسبب الفظائع المُرتكبة والتي لم يُحاسَب أيّ أحد عليها”، على حد وصفه. هذا، مع ضرورة عدم التسليم بشهادة بُرهان؛ كونه من إثنية التيجراي، وكون شهادته وإن كانت مُعلنة إلا أنّها تبقى رواية آحاد تقبل أن تكون جزئيًّا أو كُليًّا بها قدر ما من المُغالطة.
المحور الرابع
خاتمة الدراسة
فيما يلي عرض لأبرز النتائج التي تم التوصُّل إليها، ورؤية تخص المسارات الفكريّة والمسلكيّة التي من الممكن أن يسلكها آبي أحمد في المرحلة القادمة، أو التي سلكها بالفعل، ومن الممكن أن يتحدد بناءً عليها مُتغيّرات جديدة على أرض الواقع.
أولًا: نتائج الدراسة
- لعب التنوُّع الإثني بالنسبة لوالدي آبي أحمد دورًا كبيرًا في سهولة تعامله مع قضيّة إدارة التنوع بصفة عامة، خاصّةً في ظل أنه جمع إخوة لأب من إثنيّة أورومو وإخوة لأم من إثنيّة أمهرا، فضلًا عن الإخوة والأخوات الأشقّاء والذين يحملون مثله كلا الصفات الوراثية للإثنيتين معًا.
- على الرغم من كونه على ديانة والدته التي هي من إثنية الأمهرا، إلا إنه يبدو وكأنه قد تأثّر أكثر بإثنية والده من الأورومو؛ يظهر ذلك على سبيل المثال في اختيار مُفردة “MEDEMER”، والتي تعني “التآزر” بالأُوروميّة، وبنى عليها جُلّ فكره ومشروعه السياسي.
- تأكيدًا على شعوره بالقرب أكثر من إثنية أورومو، على الرغم من المُكتسبات التاريخية التي لا وجه لمقارنتها مع غيرها بالنسبة لإثنية الأمهرا؛ نجد قرينةً تُعضّد من ذلك هي انضمامه لحزب أُورومو الديمقراطي، وإيمانه بـ”الكفاح المُسلّح” من الناحيتين الفكرية والحركيّة؛ ومن ثم محاربة نظام حُكم منجستو هيلاميريام واشتراكه في القتال.
- يبدو أنّ مسألة التنوُّع بصفة عامة لا تمثّل تحديًا بالنسبة لآبي أحمد، فلقد عاش هذا التنوُّع ليس فقط على أساس الإثنية والدين بسبب والديه، ولكن أيضًا فيما يخص إخوته وأخواته على سبيل المثال؛ حيث يحكي أحد أساتذته المُباشرين([35]) في لقاء عبر الإنترنت جمعنا معًا بحكم عملي المُباشر معه لما يزيد عن ثماني سنوات، والذي قام هو بالتدريس لآبي أحمد بصورة مُباشرة قبيل نيله درجة الدكتوراه، يقول د. عمرو عبدالله: “آبي أحمد لا يعبأ كثيرًا بمسألة اختلاف الدين، بل على العكس يُقدّر ويحترم التنوُّع الديني.. أذكُر أننا كُنا في شهر رمضان المُعظّم، وقام بدعوتنا على الإفطار عند أُخته المُسلمة التي ترتدي الحجاب، وهو على صلة جيدة بها وبأسرتها، بل لم يألُ جهدًا في سبيل إكرامنا وإحياء شعيرة صوم رمضان والإفطار معًا على المائدة.. لقد كان موقفًا يصعب نسيانه”.
- قد يكون لآبي أحمد نصيب من اسمه، فمعنى “آبيوت” الذي تسمّى به حين ولادته هو “الثائر”، وهو ما يمكن أن يُفسّر اشتراكه وإيمانه بالكفاح المُسلّح في شبابه، ليس فقط ضد نظام حُكم منجستو هيلاميريام، ولكن ضد التغلغل الأجنبي في إثيوبيا من وجهة نظره.
- لدى آبي أحمد قدر كبير من الدأب على التعلُّم، فحصوله على درجتي ماجستير جنبًا إلى جنب مع درجة الدكتوراه، ودأبه على استصدار مؤلّفات تُرسّخ لمفهوم “التآزر” الذي جعله مفتاحًا لمشروعه السياسي؛ كل ذلك يُعضّد من أن المسار التعليمي أثّر عليه كثيرًا.
- ترتيب آبي أحمد كأصغر الأبناء بين إخوته، الـ13 بالنسبة لوالده، والسّادس بالنسبة لوالدته؛ ولَّدَ لديه على ما يبدو رغبة مُضاعفة في الشّعور بالأمان، وهو ما ظهر جليًّا في اختياره لزوجته التي تزاملت معه في خدمته بقوات الدفاع الإثيوبيّة، وأيضًا في تبنّيهما لطفل ذكر بعدما قاما بإنجاب ثلاث فتيات.
- ثالث الإثنيات الإثيوبية التي لها نصيب كبير في مُخيّلة آبي أحمد هي التيجرانيّة؛ حيث يُجيد لُغتها جنبًا إلى جنب مع الأوروميّة والأمهريّة والإنجليزيّة؛ وهو ما يُبرر استماتته في إخضاع إقليم تيجراي مهما كلّفه ذلك من ثمن، ومهما دفع مقابل ذلك من مواقف بها قدر كبير من العلانية الفجّة؛ كأن يتحالف مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي من أجل مواجهة قائد جبهة التحرير التيجرانيّة دبرصيون جبر ميكائيل وقادة الجبهة في الداخل الإثيوبي.
- بحُكم ولادته وترعرعه أثناء الحرب الباردة، وما خلّفته من حالة استقطاب حادة في إثيوبيا وإفريقيا بصفة عامة لصالح أيّ من الاتحاد السوفييتي آنذاك أو الولايات المتحدة الأمريكيّة؛ تولَّدَ لدى آبي أحمد على ما يبدو مناعة ضد الاستقطاب عمومًا، وبات قادرًا على التعامل مع أشكال مختلفة من الاستقطاب بهدوء وتَرَوٍّ.
- خلفيّة والديه، من أب مُسلم وأُم مسيحيّة، جعلته الشخص الأكثر مُناسبة من بين قادة حزب أورومو الديمقراطي لتولّي مهام توفيق الأوضاع بين مُسلمي ومسيحيي إثيوبيا من خلال “المُنتدى الديني للسّلام”.
- لعبت قضية “الكفاح ضد الاستيلاء غير المشروع على الأراضي في إقليم أوروميا” دورًا كبيرًا على ما يبدو في نيله شعبية كبيرة لطالما سعى إليها، خاصّةً في وقتٍ لم يكن رئيس الوزراء الإثيوبي السّابق هيلاميريام ديسالين، شخصيّة كاريزميّة، فضلًا عن كونه من إثنية “ولايتا” التي هي خارج تصنيف القوى الكُبرى الفعّالة في الداخل الإثيوبي.
- مثَّل موسم حصد الجوائز في عامي 2018 و2019م بالنسبة لآبي أحمد موسم تكليل الجهد وتسابق القوى الإقليمية والدولية على تكريم شخصية بدت مُختلفة عن أقرانها في إفريقيا بصفة عامة، وفي منطقة القرن الإفريقي بصفة خاصة؛ وكأنّ تلك الجهات كانت هي الأحرص على تكريمه لضمان مد صِلات أوفر مع إثيوبيا الغد من خلاله.
- نال آبي أحمد جائزة نوبل للسّلام ليس فقط من أجل التوقيع على اتفاقية السّلام مع إريتريا بشأن بادمي، وإلا كان نالها بالاشتراك مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، وهو ما لم يحدث، ولكنه نالها لإنهائه حالة اللّاسلم واللّاحرب الممتدة منذ ما يقرب عشرين عامًا قبل تولّيه السُّلطة.
- لم تنظر اللجنة المعنيّة لإنجاز آبي أحمد في إنهاء حالة اللّاسلم واللّاحرب بين إثيوبيا وإريتريا فحسب، وإنما إلى مستقبل السّلم والأمن في منطقة القرن الإفريقي التي تُعاني من مُشكلات أُخرى خطيرة؛ من بينها تنامي مخاطر الأمن الغذائي وانعدام الأمن الغذائي في بعض البلدان وصولًا لخطر المجاعة، كما في الصّومال.
ختامًا، يصعب عملًا تصنيف فكر آبي أحمد خاصّةً في تنقّله بين مدارس فكريّة مُغايرة في نشأته وفي فترة شبابه ووصوله لسُدّة الحكم في 2018م، فالانتقال من الإيمان بالكفاح المُسلّح ليس فقط ضد قوى مُستعمرة كما هو راسخ في الأدبيات، ولكن ضد قوى وطنيّة كما في حالة نظام حُكم منجستو هيلاميريام، ثم التحوُّل إلى الإيمان والسعي نحو تحقيق نقيض ذلك بلعب دور بنّاء في استتباب الأمن والسّلم في إثيوبيا والقرن الإفريقي ونيل درجة الدكتوراه ثم حصوله على جائزة نوبل للسّلام في أعقاب ذلك، يجعل مسألة التصنيف محفوفة بالمخاطر الأدبية.
وأخيرًا، يُمكن إيراد أوجه شبه عديدة للخط الفكري لآبي أحمد مع العديد من تيّارات الفكر السياسي الإفريقي، على سبيل المثال فكرته عن التآزر تُشبه إلى حد كبير فكرة التضامن التي خرجت من رحم حركة الجامعة الإفريقيّة على يد ويليام ديبوا، وتركيزه على الأبعاد الثقافيّة يُشبه كذلك تركيز ستيف بيكو في الوعي الأسود على أهمية البعد الثقافي المتمثّل في الوعي والإدراك بالذات أولًا وقبل كل شيء.
وحتى في مُفكّري حقبة ما بعد الاستعمار، وعلى رأسهم كوامي نيكروما ومسألة التكيُّف وضرورة عدم استدعاء أيّ نماذج غربيّة من دون تكييفها بصورة مُلائمة للواقع الإفريقي؛ يتشابه فيها الخط الفكري لآبي أحمد في هذه الجزئية بالذات.
وإذا ما عُدنا لبداية آبي أحمد، واستدعَينا قليلًا إيمانه واشتغاله معًا في النضال المُسلّح ضد نظام حُكم منجستو هيلاميريام؛ فسنجده حينها قد اقترب من فكر تيار الكفاح الثوري بزعامة فرانز فانون وإميلكار كابرال؛ مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الدقيقة في الأدبيات ذات الصّلة التي تجادلت حول مَن يُوجّه ضده الكفاح الثوري؟ هل المُستعمر الأجنبي أم القوى الوطنيّة غير المُرحَّب بها؟ والأخيرة بكل شك هي الأضعف والمُجافية لأوليّات ومُسلّمات دراسات السّلام والصّراع واقتراباتها الحديثة.
[1] Abiy Ahmed Biography, the famous people: https://www.thefamouspeople.com/profiles/abiy-ahmed-49645.php
[2] – Ethiopian Prime Minister and Wife Set An Example With Adoption From Kibebe Tsehay Orphanage, (African Vibes: February 9, 2019) https://africanvibes.com/ethiopian-prime-minister-and-wife-set-an-example-with-adoption-from-kibebe-tsehay-orphanage/
[3]– Biography of Abiy Ahmed, (Study IQ: October 23, 2019) https://www.studyiq.com/articles/biography-abiy-ahmed-free-pdf/
[4]– The Famous People, idem.
[5]– Biography of Abiy, idem.
[6]– العين الإماراتيّة الإخباريّة، “آبي أحمد يُطلق كتاب “الاندماج الوطني” فلسفة علاج مُشكلات إثيوبيا“، (16 أُكتوبر 2023):
https://al-ain.com/article/abi-ahmed-national-integration-ethiopia-book
[7] -The famous people, idem.
[8] -Abiy Ahmed Ali- Biographical. NobelPrize.org. Nobel Prize Outreach AB 2023. Sat. 6 May 2023. https://www.nobelprize.org/prizes/peace/2019/abiy/biographical/
[9]– PM Abiy Launches His Book on MEDEMER, (Ethiopian Monitor: October 20, 2019) https://ethiopianmonitor.com/2019/10/20/abiys-book-on-medemer-launched/
[10]– Idem.
[11] -Professor Alemayehu G. Mariam, “Medemer” by Abiy Ahmed, Ph.D., An Interpretive Book Review in Two Parts (Part I), (Almariam: October 20, 2019) https://almariam.com/2019/10/20/medemer-by-abiy-ahmed-ph-d-an-interpretive-book-review-in-two-parts/
[12]– Abiy Ahmed, “A Pledge for Africa”, (Project Syndicate: May 1, 2020) https://www.project-syndicate.org/commentary/pledging-conference-to-help-africa-fight-covid19-by-abiy-ahmed-2020-05
[13] -Abiy Ahmed, “Saving Generation COVID”, (Project Syndicate: July 13, 2020) https://www.project-syndicate.org/commentary/pandemic-education-crisis-sdg4-by-abiy-ahmed-and-gordon-brown-2020-07?barrier=accesspaylog
[14] -Abiy Ahmed, “Africa’s Peace and Prosperity Begin at Home”, (Project Syndicate: September 9, 2020) https://www.project-syndicate.org/commentary/africa-peace-prosperity-geopolitical-power-by-abiy-ahmed-2020-09?barrier=accesspaylog
[15]– Abiy Ahmed, “Towards a Peaceful Order in the Horn of Africa”, (Project Syndicate: February 6, 2021) https://www.project-syndicate.org/commentary/ethiopia-removal-of-tigray-tplf-will-benefit-region-by-abiy-ahmed-2021-02?barrier=accesspaylog
[16] -Abiy Ahmed Ali – Nobel Lecture. NobelPrize.org. Nobel Prize Outreach AB 2023. https://www.nobelprize.org/prizes/peace/2019/abiy/lecture/
[17] -Idem.
[18] -Idem.
[19] -Idem.
[20] -Idem.
[21] -Idem.
[22]– H.E Dr. Abiy Ahmed Prime Minister of the Federal Democratic Republic of Ethiopia: Statement at the 35th Ordinary Session of the Assembly of the African Union, “2:11- 2:56”, (African Union Official Website: February 5, 2022) https://au.int/es/videos/20220205/prime-minister-ethiopia-statement-35th-au-summit
[23] -Nobel Prize literature, idem.
[24]– Idem.
[25]– صفحة “تآزر MEDEMER” الرسمية على منصة التواصل الاجتماعي: “تويتر”:
https://twitter.com/MedemerNow/status/1650815438937378816
[26]– الموقع الرسمي لـ”تآزُر” الذراع الحركيّة لفلسفة آبي أحمد الفكريّة: https://medemer.et/book/
[27]– المصدر ذاته. https://twitter.com/MedemerNow/status/1655856346602897411/photo/1
[28] -Michael Rubin, “Don’t let Abiy Ahmed become the next Saddam Hussein”, (American Enterprise Institute: November 22, 2022) https://www.aei.org/op-eds/dont-let-abiy-ahmed-become-the-next-saddam-hussein/
[29] -Professor. Alemayehu G. Mariam, “Medemer Generation”(MEDGEN): Tip of the Spear for Ethiopia’s Peace, Prosperity and Progress (Part I), (Almariam: April 27, 2023) https://almariam.com/2023/04/07/medemer-generationmedgen-tip-of-the-spear-for-ethiopias-peace-prosperity-and-progress-part-i/
[30] -The official website of “MEDEMER”: https://medemer.et
[31] -The official website of the Prime Minister of Ethiopia: https://www.pmo.gov.et/media/other/book.pdf
[32]– Middle East North Africa Center, “A Changing Ethiopia: Understanding Medemer.. Can A New Political Philosophy Remake Ethiopia?”, (MENAC: February 20, 2020) https://www.usip.org/events/changing-ethiopia-understanding-medemer
[33]– Getu Teressa, “Abiy Ahmed: A Philosopher King or a Sophist?”, (Ethiopia Insight: April 5, 2020) https://www.ethiopia-insight.com/2020/04/05/abiy-ahmed-a-philosopher-king-or-a-sophist/
[34] -Eliza Mackintoch, CNN, “From Nobel laureate to global pariah: How the world got Abiy Ahmed and Ethiopia so wrong”, (CNN: November 5, 2021) https://edition.cnn.com/2021/09/07/africa/abiy-ahmed-ethiopia-tigray-conflict-cmd-intl/index.html
[35]– أ.د/ عمرو خيري عبدالله، أُستاذ مُتفرّغ بجامعة السّلام التابعة للأُمم المتحدة بكوستاريكا، وأيضًا بجامعة جونياتا بالولايات المُتحدة، واستشاري أوّل سابقًا بقسم بحوث الأمن والسّلم بمعهد دراسات الأمن والسّلام التابع للاتحاد الإفريقي (IPSS).