كتبه: عبدالرّحمن خليفة سادو جالو
مقدّمة
كما قامت علاقات بين بلاد السّودان الغربيّ وعرب الشّمال الإفريقيّ ومصر؛ فقد قامت بينها وبين الحجاز روابط وصلات ثقافيّة ودينيّة عميقة الجذور وإيجابيّة المسارات ومتينة المعطى -على الرّغم ممّا بين القطرين من بُعْد مسافات السّير في الصّحراء القاحلة والفيافي-، اقتضى وجود تلك الصّلات العامل الدّينيّ المشترك والحاجة البيولوجيّة للبشر، وأدّى ذلك كلّه إلى شبه تلاقح وتقارب في الطّباع والفكر والعُرْف آنذاك.
ويعنينا في هذه الدّراسة من بين أنواع تلك الصّلات التي كانت قائمة بين بلاد السّودان الغربيّ والعرب: التّواصل الثّقافي بين القُطْرين السّوداني والحجازيّ الّذي تمتدّ جذوره – فيما يظهر- إلى القرن العاشر الهجريّ/السّادس عشر الميلادي وصولاً إلى القرن الرّابع عشر الهجريّ/ العشرين الميلادي، وقد تنوّعت مظاهر ذلك التّواصل لتشمل: الرّحلة إلى الحجاز لطلب العلم خاصّة، ورحلات الحجّ، واستدعاء الإجازة من مشايخ الحجاز، والمراسلة للحصول على الفتاوى الفقهيّة المختلفة من مشايخ الحجاز.
غير أنّ الملاحظ أنّ عددًا كبيرًا من الدّارسين المحْدَثين لم يتنبّهوا إلى دراسة تلك الإجازات والفهارس المتبادلة بين الحجازيين والسّودانيين لإبراز أهمّـيتها وحدود إسهاماتها في تاريخ التّواصل الثّقافي التّاريخيّ بين الطّرفين ومظاهره؛ وذلك باعتبار أنّ الإجازات –بصفة عامّة- من الأمور التي أغفلها كثير مـن المتأخرين والمعاصرين ولم يعيروها اهتمامًا كبيرًا في إطار الحركة العلميّة، كما أنّ المطَّلع لأوّل مرّة على هذه الإجازات والفهارس قد لا يجد فيها ما يحرّك لديه الرّغبة في قراءتها، فضلاً عن دراستها؛ فهي مادّة عسيرة الاستيعاب تدعو إلى شدّة التّركيز، ولا تُفصح عن ذاتها إلاّ للمتخصّص وفي مستويات محدودة.
لقد اتّخذت هذه الدّراسة إجازة قطب الدّين النُّهْرَوالي لأهل التّكرور بأبعادها ومعطياتها المختلفة كمشكل للدّراسة؛ لتحديد جوانب من التّواصل الثّقافي التّاريخيّ بين بلاد السّودان والحجاز من خلال رحلة الإجازات والفهارس المتبادلة بينهم، التي تُجسِّد نموذجًا للتّكامل المـعرفي بين الطّرفين؛ وذلك بالشّرح والتّحليل والوصف لأبعاد تلك الإجازة ومعطياتها المختلفة.
استخدم الباحث في هذه الدّراسة المنهج الوصفي التّحليلي؛ وهو منهج يعتمد على تقديم وصف دقيق لمحتوى النّصوص لاستخراج النّتائج وتسجيل الملاحظات على الظّواهر المدروسة دون الحاجة إلى الاستعانة بمصادر معلومات أخرى إلاّ في نطاقات ضيّقة.
تيسيرًا لتناول الـموضوع بشكل موضوعي منطقيّ فقد قسّمت الدّراسة إلى ثلاثة مباحث هي:
الـمبحث الأوّل: الجذور التّاريخيّة للعلاقات العربية السّودانيّة.
الـمبحث الثّاني: رحلة الإجازات والفهارس وأهمّيتها في رسم التّواصل الثّقافي التّاريخيّ بين بلاد السّودان الغربيّ وبلاد العرب.
المبحث الثّالث: إجازة قطب الدّين النّهروالي لأهل التّكرور نموذجًا للتّواصل الثّقافي التّاريخيّ بين بلاد السّودان الغربيّ والحجاز.
الـمبحث الأوّل:
الجذور التّاريخيّة للعلاقات العربية السّودانيّة
يُقصد بـ “العلاقات العربيّة السّودانية” في هذا البحث: التّواصل البشريّ المتبادَل بين بلاد السّودان الغربيّ – غرب إفريقيا حاليًا- وبين العرب في بلاد المغرب العربيّ ومصر والحجاز عبر التّاريخ القديم، وقد شمل ذلك التّواصل أشكالًا وميادين ومـجالات عديدة؛ منها: مجال السّياسة والاقتصاد والثّقافة والدّين.
ويـمكن رَصْد تطوُّر العلاقات العربيّة السّودانية خلال ثلاث مـراحل:
1- العلاقات العربيّة السّودانية قبل العهد الاستعماريّ:
لقد أدّى ظهور الإسلام في بلاد السّودان الغربيّ في القرن الأوّل الهجريّ/ السّابع الـميلاديّ –على الأرجح- إلى اتّصال مسلمي هذه الـمنطقة بإخوانهم العرب في بلاد المغرب العربيّ ومصر والحجاز عن طريق عدّة قنوات هي: الجوار الجغرافيّ، والتّجارة، والهجرات البشريّة للاستيطان، والرّحلة في طلب العلم، ورحلات الحجّ، والدّعوة والعمل على نشر الإسلام، والمصاهرة، والغزو.
فبعد استقرار العرب الفاتحين في منطقة الشّمال الإفريقيّ واندماجهم مع أهلها، حملوا –إلى جانب البربر- على كواهلهم مسؤولية نشر الإسلام والثّقافة العربية الإسلاميّة في أجزاء كبيرة من بلاد السّودان الغربيّ بطريقة سلـميّة تمثّلت في التّجارة؛ حيث كان التّجّار “إذا حلّوا ببلد أقاموا في حيّ مستقلّ عن الحيّ الأصليّ الوثنيّ، وكوّنوا لأنفسهم جالية إسلاميّة تقيم إقامـة دائـمة بالبلد”( )، أو مؤقّتة؛ فيـمارسون فيه شعائر دينهم كعادتهم في بلادهم الأصليّة، ويتعاملون مـع أهل البلاد بالخُلُق الحَسَن وتأليف قلوبهم بالهدايا والهِبَات، فيؤثِّر أداؤهم لتلك الشّعائر وحسن تعاملهم “على عقول الصّغار من غير الـمسلمين، ويَلْفت أنظار الكبار مـمّن شرح الله صدورهم للإسلام؛ فيدخلون مع المسلمين في دين الله”.( )
ثمّ استمرّت بعض القبائل العربيّة تتوغل في الجنوب في حركات هجرة مستمرّة للاستيطان أو للإسهام في الإشعاع الثّقافي في السّودان الغربيّ أو لغزو المنطقة كالكونتيين والبرابيش والأنصار والرّماة، وقد تصاهر بعض أفراد تلك القبائل العربية مع القبائل السّودانية.
وكانت رحلات الحجّ إلى مكّة فرصة سانحة لاتّصال السّودانيين بإخوانهم العرب الحجاز، والتّعرّف على أحوال بلادهم.
وباتّساع نطاق التّجارة والهجرة والدّعوة إلى الإسلام ورحلات الحجّ ظهرت كثير من المؤثّرات العربيّة الإسلامية في حياة السّودانيّين، ونتج عن ذلك قيام العديد مـن الـممالك والإمارات السّودانية الإسلامية في السّودان الغربيّ قبل أن يداهم الـمستعمر الـمنطقة.
2- العلاقات العربيّة السّودانية في العهد الاستعماريّ:
تركت سيطرة المستعمرين على بلاد السّودان الغربيّ منذ القرن السّابع عشر إلى مـطلع القرن العشرين آثارًا سلبيّة في مجال العلاقات العربيّة السّودانية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، ومـن تلك الآثار:
– حاولت السّياسة الاستعماريّة إقامة الحواجز الـمعنويّة والماديّة بين مسلمي السّودان الغربي وبين العرب في الشّمال ومصر والحجاز، وقطع كلّ صلة السّودانيّين مع مراكز الإشعاع الثّقافي العربيّ.
– القضاء على حركة القوافل التّجارية عبر الصّحراء التي كانت مزدهرة بين السّودان الغربيّ وبين مناطق الشّمال الإفريقيّ ومصر، وتحويل مركز الثّقل الاقتصاديّ إلى سواحل الـمحيط الأطلسيّ.
– إبعاد اللّغة العربية –التي كانت لغة الثّقافة والإدارة– عن الدّواوين ببلاد السّودان الغربي، واستبدالها بلغة الـمستعمر.
– منع التّجّار السّودانيين من استيراد المطبوعات المكتوبة باللّغة العربيّة من مصر وسوريا ولبنان وغيرها.
– تشويه صورة العربيّ من خلال برامج التّعليم الأجنبيّ على أنّه انتهازيّ كان يستغلّ خيرات السّودان الغربيّ، وأنّه متعالٍ يترفّع على السّودانيين؛ وذلك من أجل أن تسقط صورة العربيّ في أعينهم.
3- العلاقات العربيّة السّودانية في فترة مـا بعد الاستقلال:
شهدت الخمسينيات من القرن الماضي درجة عالية مـن التّنسيق والتّضامن بين الدّول العربية وإفريقيا –خاصّة غربها- في العديد مـن القضايا، مـن أهمّها: مكافحة الاستعمار والتّخلّص من الاحتلال، والدّعم السّياسيّ الذي قدّمته الدّول العربيّة لحركات الاستقلال في إفريقيا.
مع نهاية السّبعينيات وبداية الثّمانينيات ظهرت العديد مـن السّلبيّات في العلاقات العربيّة الإفريقيّة؛ حيث شابت العلاقات في تلك الفترة أزمات ثقة وشكوك متبادلة في نيّات كلّ طرف تجاه الآخر على الـمستوى الجماعيّ، وظهرت آثار ذلك في كثير من اجتماعات منظّمة الوحدة الإفريقيّة( ).
الـمبحث الثّاني:
رحلة الإجازات والفهارس وأهمّيتها في رسم التّواصل الثّقافي التّاريخيّ بين بلاد السّودان الغربيّ وبلاد العرب
لقد حرص عدد من علماء بلاد السّودان الغربيّ على تحصيل الإجازات العلميّة والفهارس من بعض أساطين العلم في الحجاز وحُفّاظ حديثها؛ الذين ساهموا في الإبقاء على سلسلة السَّند متّصلة حتّى لا تنقطع، سواء أكان ذلك التّحصيل عن طريق المراسلات أم عن طريق رحلات الحجّ، وبذلك انتقلت الإجازات والفهارس إلى الـمنطقة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1- أثناء تأدية أحمد بن أحمد بن عمر أقيت التّنبكتي السّوداني (ت991ه) لفريضة الحجّ لقي بركات بن محمد الحطّاب المكّي (ت بعد 980ه)، وحصل منه على إجازة علميّة.( )
2- كما أجاز محمدَ بن أحمد بن أبي محمد التّازختي (ت936ه) في أثناء رحلة حجّه عددٌ من علماء مكّة، منهم: أبو البركات النّويري (ت حوالي 916ه)، وابن عمه عبدالقادر النّويري، وعليّ بن ناصر الحجازي، وأبو الطّيب البستي. ( )
3- كما حصل أحمد بابا التّنبكتي (ت1036ه) عن طريق المكاتبة على إجازات اثنين من علماء الحجاز؛ هما: محمد بن محمد المعروف بحمد فادم الفلّاني، ويحيى بن محمد بن محمد بن عبدالرّحمن الحطّاب (ت بعد 993ه).( )
4- وأجاز َالمـعمّرَ محمد ابن سِنَّة الفلّاني السّوداني (ت1186ه) ثلاثة من كبار علماء الحجاز بإجازاتهم، هم: برهان الدّين إبراهيم بن حسن الكوراني (ت 1101ه) مسند المدينة المنوّرة، وصفيّ الدّين أحمد بن محمـد القُشَاشِي المدني (ت1071ه)، وأبو الأسرار حسن بن عليّ العُجَيْمي المكيّ (ت1113ه). ( )
وفي المقابل اهتمّ بعض علماء الحجاز بنيل إجازات علماء بلاد السّودان وفهارسهم، وبذلك انتقلت إجازاتهم وفهارسهم إلى الحجاز، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1- لقد روى محمد بن محمد التّهامي دفين مكّة (ت1244ه) المعروف بـ “ابن التّهامي بن عمرو” فهرسة شيوخ عثمان دان فودي التي تسمّى بـ “أسانيد الفقير” عن طريق الجوال أحمد بن الفغوردوا السّوداني. ( )
2-كما روى فهرسةَ محمد بن سنّة الفلّاني وأسانيده اثنان من علماء الحجاز وهما: محمد بن أحمد العطوشي المدني عن طريق محمد السّياح الفاسيّ، ومحمد أمين بن عمر بالي زاده الحنفي (ت1304ه). ( )
الواقع أنّ القراءة المـتأنّية لإجازة وفهرسة علمية معيّنة أو لعدد من الإجازات والفهارس ستسمح لنا باكتشاف القيمة الكبيرة التي تحملها الإجازة والفهرسة أو الإجازات والفهارس، كما أنّها تفيدنا بأشكال من التّواصل الثّقافي التّاريخيّ بين بلاد السّودان الغربيّ وعرب الحجاز تتمثل فيما يلي:
1- برامج المرويّات: هي الكتب الدّراسيّة السّائدة في القرون الماضية، التي كانت تتقاسمها بلاد العرب –كلّها أو بعضها- مع بلاد السّودان الغربيّ.
2- مناهج تحمل المرويّات: وهي طرق تحمُّل الكتب والأحاديث الواردة في أسانيد الإجازات والفهارس عن أهل العلم، فنجد مثلا: ((أجازني بخطّه))، أو((أجازني قراءة عليه))، أو((أجازني بلفظه))، أو((أجازني مُكاتبةً)).
3- تفاعل ظرف الزّمن مع ظرف المكان: يُتَحدّدُ في غالب الإجازات المفردة والفهارس مكان تحمّلها وتاريخ ذلك؛ فيستطيع الباحث من خلال هذين العاملين التّعرُّف على مدى انتشار الحركة العلميّة قوّةً وضعفًا في الفترة الزّمنية والمكان المنصوص عليهما في الإجازة أو في الفهرسة الحجازية والسّودانية.
4- أنواع الفنون المعرفيّة: التي اهتمّ طلبة العلم بتحصيلها في مختلف مجالس العلم بالحواضر الثّقافيّة بالقطرين: السّوداني والعربيّ.
5- الآثار العلميّة التي خلّفتها برامج المرويّات (الكتب التي في الإجازة أو في الفهرسة) في كلّ مرحلة من مراحل تنقّلها في ازدهار علم معيّن أو في بروز فئة من العلماء الفاعلين.
المبحث الثّالث:
إجازة قطب الدّين النّهروالي لأهل التّكرور نموذجًا للتّواصل الثّقافي التّاريخيّ بين بلاد السّودان والحجاز
بِغَضّ النّظر عما تمثّله إجازة قطب الدّين النّهروالي لأهل التّكرور من التّحوّل النّوعيّ في أثر النّهروالي العلمي، ومن فاعليّته في حفظ العلوم وتداولها بالرّواية؛ فإنّ هذه الإجازة تُمثّل في نفس الوقت نموذجًا حيًّا من صور التّواصل التّاريخيّ الثّقافيّ وحلقاته بين العلماء السّودانيين وبين علماء الحجاز خلال القرن العاشر الهجري/ السّادس عشر الميلادي؛ حيث فترة ازدهار الحركة العلميّة والثّقافيّة في منطقة السّودان الغربيّ والأوسط، كما تبرز هذه الإجازة العلمـيّة مدى اهتمام بعض علماء تلك المنطقة بطلب السّند العالي وإحياء رسمه لنقل العلوم إلى الأجيال اللّاحقة، والاهتمام بالسّعي إلى تخليد ذكرى مشايخ علم الحديث النّبويّ في صحائف الزّمان، وتبرز هذه الإجازة أيضًا رغبة علماء السّودان الغربيّ في الانتظام في زمرة فرسان الدّين الإسلاميّ الذين هم أصحاب الأسانيد.
لقد خلّفت هذه الإجازة القُطُبيَّة آثارًا إيجابيّة في بلاد السّودان الغربيّ؛ بحيث صار علماؤها على مدار ثلاثة قرون تقريبًا يتداولونها في أسانيدهم لنقل المرويّات الحديثيّة وفي إجازاتهم لطلبة الحديث النّبويّ وللرّاغبين في الرّواية والإسناد، مثل إجازة أحمد بابا التّنبكتي لأبي زيد عبدالرحمن التّمناري (ت 1060ه)، وللقاضي أبي القاسم ابن محمد ابن أبي النّعيم الغسّاني (ت1032هـ)، وللقاضي أبي العبّاس أحمد بن محمد المقرّي (ت1041ه)، وفهرسة شيوخ ابن سنة الفلّاني لتلميذه صالح بن محمد العمريّ الفلّاني (ت 1218ه)؛ الذي بواسطته شدّت أسانيد إجازة النّهروالي الرِّحال إلى الحجاز، فاستقرّت فيها منذ مطلع القرن الثّالث عشر الهجريّ/ التّاسع عشر الميلاديّ، فحصل بسبب ذلك التّكاملُ بين القطرين: السّوداني والحجازي لخدمة الثّقافة الإسلاميّة، وتمتين عُرَى التّقارب بينهما.
بناء على ذلك سأحاول في هذه العجالة تسليط الضّوء على هذه الإجازة العلميّة في المحاور التّالية:
1- التّعريف بصاحب الإجازة.
2- الإطار العام للإجازة.
3- تحليل محتوى الإجازة.
4- مظاهر التّواصل الثّقافي بين الحجاز وبلاد السّودان الغربيّ ومحفّزاته من خلال هذه الإجازة.
المحور الأوّل: التّعريف بصاحب الإجازة
• اسمه ونسبه ومولده:
هو قطب الدّين محمد بن علاء الدين أحمد بن أبي محمد شمس الدّين محمد بن حميد قاضي خان بن بهاء الدّين محمد بن يعقوب بن حسن بن علي النّهروالي المكيّ الحنفيّ القادريّ الخرقانيّ.
هكذا نسَب صاحب الإجازة نفسه في مستهلّها، وكذلك نسبه عدد من أصحاب التّراجم.( )
والنّهروالي باللّام نسبة إلى نَهْرَوالَه؛ فهي بلدة من أعمال كُجْرَات بالهند بالقرب من فَطَّن، ووقع عند بعض المـترجمين لفظ “النّهرواني” بالنّون( ) نسبة إلى النّهروان بالأردن؛ وهو خطأ واضح نبَّه عليه الزّركلي( )، و”الخرقاني” –فيما يظهر لي- نسبة إلى خِرْقان؛ وهي الفتحات التي تكون في الثّوب وغيره، وربّما كان صاحب التّرجمة يُكثر من لُبْس هذا النّوع من الثّياب؛ زهدًا في الدّنيا حتّى اشتهر به.
وُلِدَ قطب الدّين النّهروالي سنة 917هـ /1511م في مدينة لاهور، ثمّ رحل إلى مكّة المكرّمة للإقامة فيها( )، ولا شكّ أنّ ضعف الدّولة الكجراتيّة الإسلاميّة، وتوالي الفتن فيها هي مـن الأسباب التي دفعت النّهروالي وأقاربه للهجرة إلى تلك البلاد.( )
• شيوخه:
رحل صاحب التّرجمة إلى كثير من الآفاق بحثًا عن العلم، وتلقَّى تعليمه التّأسيسي والعالي على أيدي نخبة من العلماء، ممّا أكسبه ألوانًا من فنون العلم، فمن أشهرهم:
1- والده أحمد علاء الدّين بن محمد النّهروالي (ت949ه).
2- عبدالحقّ بن شمس الدّين محمد السّنباطي (ت931ه).
3- ناصر الدّين اللَّقاني (ت958هـ).( )
• تلاميذه:
باستثناء أبي محمد بن علاء الدّين أحمد النّهروالي (ت979ه) شقيق قطب الدّين النّهروالي، لم تُشِر المصادر التي بين يدي الباحث إلى أسماء الطلاب الذين تتلمذوا وتخرجوا على يدي العلاّمة قطب الدّين النّهروالي مباشرةً، وإنّما له عن طريق الإجازة تلامذة كثيرون أصبح لهم شأن عظيم فيما بعد؛ سواء على مستوى التّدريس أو على مستوى التّأليف، أو على مستوى تولّي خطّة القضاء والخطابة والإمامة، ويتوزّع تلامذته عن طريق الإجازة على السّودان الغربي والهند والحجاز واليمن، فمن أشهرهم:
1- عبد الله ابن المنلا سعد الدّين اللاهوري (ت1083ه).
2- نور الدين عليّ بن محمد بن مطير (ت 1084ه).
3- محمد بن الفقيه محمود بغيغ (ت1002ه).
4- أحمد بابا التّنبكتي( ).
• مكانته العلميّة وثناء أهل العلم عليه:
لقد شهد كثير من أهل العلم في بلاد السّودان والمغرب والمشرق ممّن عاصر العلاّمة قطب الدّين النّهروالي أو جاء بعده بسيادته في العلم ونبوغه فيه وبصلاحه؛ فمن ذلك:
– قال محيي الدّين عبدالقادر بن شيخ العَيْدَرُوس (ت 1038هـ) في ترجمته: ((العالم الفاضل المفتي الشيخ قطب الدين الحنفي المكي… وكان من الأعيان المذكورين الفضلاء المشهورين مـِجْلالاً محترمًا)).( )
– ووصفه نجم الدّين الغزي وابن العماد الحنبليّ (ت1089ه) بقولهما: ((وكان بارعًا مفننًا في الفقه والتّفسير والعربية، ونظم الشّعر)). ( )
– وأجاد شهاب الدّين الخفاجي (ت1069ه) في وصفه حيث قال: ((وهو فاضل، جرى في بساتين فضله جداول الآداب، وتمسك الشّعر منه بأعظم الأسباب، فوقف دون مداه ضّده وحسوده)). ( )
– وقال عنه محمد بن عليّ الشّوكاني (ت1250ه)( ): ((العالم الكبير، أحد المدرّسين بالحرم الشّريف في الفقه والتّفسير والأصلين وسائر العلوم… وله فصاحة عظيمة؛ يعرف ذلك من اطلع على مؤلّفه الذي سماه “البرق اليماني في الفتح العثمانيّ)).( )
• مؤلّفاته:
لقد خلَّف لنا العلاّمة قطب الدّين النّهروالي المكيّ تراثًا فكريًّا ضخمًا في حقول معرفيّة متنوّعة، وجد بعض ذلك التّراث طريقه إلى عالم النّشر، بينما ما يزال بعضه حبيس الرّفوف في المكتبات العامّة والخاصّة في العالم، منها:
– الإعلام بأعلام بلد الله الحرام. ( )
– التمثيل والمحاضرة بالأبيات المفردة النادرة.
– الجامع في الحديث.
– البرق اليماني، في الفتح العثماني.
– الفوائد السنية، في الرحلة المدنية والرومية.
– المناسك.
– طبقات الحنفية. ( )
• وفاته:
روى عبدالملك العصامي وغيره( ) أنّ وفاة النّهروالي كانت يوم السّبت 26 من ربيع الثّاني سنة 990هـ، وأنّه دفن بمـقبرة المعلاة في مكّة المكرّمة( )، الظّاهر أنّ هذه الرّواية هي الرّاجحة؛ لأنّها تتميّز بزيادة علم وهي ذكر يوم الوفاة وشهرها ووقتها وسنتها ومكان دفن المتوفّى، وكما أنّ هذه الرّواية هي اختيار جمهور المترجمين لحياة النّهروالي، ولأنّ عبدالملك العصامي الذي اختار هذه الرّواية أعلم بصاحب التّرجمة من غيره.
المحور الثّاني: الإطار العام للإجازة
• تصنيف الإجازة
تصنّف هذه الإجازة ضمن نوع الفهرسة التي تعرف بـاسم “فهرسة الإجازة”. وهي فهرسة يكتبها المؤلّف إجازة للرّاغبين في روايته بناء على استدعاء توصّل به مَن يحمل هذه الرّغبة( )، من غير تعريف المؤلّف بشيوخه ولا سرد للغرائب والفوائد العلميّة التي استفادها منهم.
• أسباب منح الإجازة وتاريخ كتابتها
لقد نصّ العلاّمة قطب الدّين النّهروالي في مستهلّ هذه الإجازة بعد المقدّمة على أسباب كتابته إيّاها لأولئك الأعيان؛ وهي أمران:
1- الخوف من أن تندرس الأسانيد العالية التي حصّلها قطب الدّين النّهروالي من مشايخه، والخوف من أن تنمحي أسامي مشايخه من صحائف الزّمان، أحبّ أن يحيي طريق سنده بقدر الإمكان؛ وذلك من خلال تدوين هذه الإجازة.
2- أنّه اجتمع بقطب الدّين النّهروالي في داره بـمكّة بعضُ حجّاج بيت الله الحرام من بلاد التّكرور، وذلك بتاريخ: 17/ رمضان من سنة 988ه، وقدّموا إليه استدعاء للإجازة لهم ولبعض العلماء الكبار ببلاد تنبكت في مرويّاته الحديثيّة؛ ليكون ذلك سببًا في نشر علم الحديث في تلك البلاد. ( )
• القيمـة العلميّة للإجازة
تكتسب هذه الإجازة قيمتها العلميّة من أربعة أمور:
1- المـكانة العلميّة والاجتماعيّة التي يتمتّع بهما قطب الدّين النّهروالي صاحب الإجازة في الأوساط العلميّة وعند الملوك.
2- اهتمام فقهاء الأمصار السّودانيّة والحجازيّة والمـغربيّة والهنديّة بهذه الإجازة منذ عصر المؤلّف إلى القرن الرّابع عشر الهجريّ، حتّى صارت عمدة؛ بحيث لا تكاد تجد إجازة أو فهرسة في هذه الأمصار منذ عصر قطب الدّين النّهروالي تختصّ بنقل أسانيد أمّهات الكتب الحديثيّة إلاّ وفيها بعض أسانيد هذه الإجازة أو كلّها؛ وذلك نظرًا إلى الثّقة التي حظي بها قطب الدّين النّهروالي في عصره وبعده وعِلمه الواسع، فمن تلك الفهارس والإجازات على سبيل المثال:
– تشييد منار الإسناد والأثر للعلاّمة أحمد بابا التّنبكتي.
– روضة الآسي العاطرة الأنفاس في ذِكْر من لقيته من أعلام الحضرتين: مرّاكش وفاس، لأحمد بن محمد المقريّ.
– الفوائد الجمّة في إسناد علوم الأمة لأبي زيد عبدالرّحمن التّمناري.
– فهرست عبد القادر الفاسي لعبدالقادر الفاسي (ت1091ه).
– الأمم لإيقاظ الهمم، وجناح النّجاح بالعوالي الصّحاح، كلاهما لبرهان الدّين إبراهيم بن حسن الكوراني.
– اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبد الغني الدهلوي المدني الحنفي لأبي عبدالله محمد يحيى التيمي المعروف بمحسن التِّرهُتي الفُرينِي الهنديّ (ت1296ه).
– الفهرسة التي تسمـّى بـ “سِمطُ الجِوْهر في الأسانيد المتصلة بالفنون والأثر” لأبي التوفيق محمد العربي بن محمد الدّكالي الدَمْنَاتِي (ت1253ه).
– قطف الثمر في رفع أسانيد المصنفات في الفنون والأثر لصالح بن محمد العمري الفلّاني.
– نزهة رياض الإجازة المستطابة بذكر مناقب المشايخ أهل الرّواية والإصابة، لعبدالخالق بن عليّ المزْجاجي (ت1201ه).
– فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات لمحمد عبدالحيّ بن عبدالكبير الكتّاني.
– موسوعة الأعمال الكاملة لمحمد الخضر حسين (ت1378هـ).
– معجم الشّيوخ المسمّى “رياض الجنّة” أو “المدهش المغرب” لعبدالحفيظ بن محمد الطّاهر بن عبدالكبير الفاسي (ت1383ه).
3- يزيد من قيمة إجازة قطب الدّين النّهروالي لأهل التّكرور اشتمالها على أسانيد عالية لم توجد لها مثيل في عصر كاتبها، وستأتي الإشارة إليها لاحقًا.
4- أطلعتنا هذه الإجازة العلميّة على أسماء بعض أعلام الحديث النّبويّ الذين لا نكاد نجد لهم ذِكْرًا في كتب التّراجم والتّاريخ المطبوعة اليوم، فخلّد بذلك قطب الدّين النّهروالي ذكراهم في صحائف الزّمان، وهم: زين الدين علي القرماني الحنفي، وعماد الدّين عبدالعزيز بن جمال الدّين العبّاسي الأَفْزَري، وجمال الدين محمد بن نظام الدين محمود الأنصاري السعدي الخزرجي الخرقاني، وخنزا بنت الشيخ شمس الدين محمد بن عمرو الأنصاري السّعدي الخزرجي الشّافعي الباسكندي الخرقانيّ هي والدة صاحب الإجازة.
• أسانيد صاحب الإجازة فيها
تتّصل مرويّات قطب الدّين النّهروالي إلى أصحابها في هذه الإجازة بواسطة أربع طرق هي:
الطّريق الأول: عن أبيه علاء الدّين أحمد النّهروالي عن الحافظ شمس الدّين محمد بن عبدالرّحمن السّخاوي.
الطّريق الثّاني: عن زين الدّين عبد الحق السّنباطي المصري الشافعيّ عاليًا عن الحافظ ابن حجر.
الطّريق الثّالث: عن خمسة من المحدّثين هم: والده، ووالدته خنزا بنت الشيخ شمس الدين محمد بن عمرو الأنصاري السّعدي الخزرجي الشافعي، وعماد الدّين عبدالعزيز بن جمال الدّين العبّاسي الأَفْزَري، وجمال الدين محمد بن نظام الدين محمود الأنصاري السعدي الخزرجي الخرقاني، وزين الدّين علي القرماني الحنفي، وكلّهم عن الشيخ قطب الدين أبي يزيد بن محيي الدين بن نظام الدين محمود الأنصاري الشافعي، عن نور الدّين أبي الفُتُوح أحمد بن عبدالله ابن أبي الفتوح الطَّاوُسيّ.
الطّريق الرّابع: عن وجيه الدّين عبدالرّحمن بن عليّ ابن الدَّيْبَع اليماني (ت 944ه) صاحب كتاب ” تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرّسول” مكاتبة وبالإجازة العامّة عنه.
المحور الثّالث: تحليل محتوى الإجازة
يمكن تحليل محتوى إجازة قطب الدّين النّهروالي لأهل التّكرور على ضوء العناصر التّالية:
• ديباجة الإجازة (المقدّمة):
استهلّ قطب الدّين النّهروالي هذه الإجازة بعدّة أمور، هي:
1- لفت الأنظار إلى أنّ اتّصال السّند بين راوي الحديث وبين النّبي -صلى الله عليه وسلم- معدود من أشرف الكرامة وأعلى الرّتب.
2- صوّر لنا النّهروالي جزءًا يسيرًا مِن حِرْصه على الرّحلة في طلب الحديث وسائر العلوم الشّرعيّة في مختلف أقطار الدّنيا، واستجازته للعلماء، وأشار إلى أنّ ذلك التّحصيل العلمي وتلك الإجازات هي التي جعلته أعلى سندًا من جميع أهل عصره ممّن لم يدركوا كبار العلماء.
3- وفاء النّهروالي لذكرى مشايخه، واعترافه بالجميل لهم، وإبداؤه الرغبة في التّشبّه بهم.
4- أوضح النّهروالي أسباب كتابته هذه الإجازة لأولئك الأعيان من بلاد التّكرور على ما تقدّم بيانها.
5- النّص على إجازته لأصحاب الاستدعاء بأن يرووا عنه الأحاديث والكتب المذكورة بأسانيدها في أوراق الإجازة، والنّص على أنّه أجاز لهم أيضًا أن يرووا عنه جميع ما له من نظم ونثر ورسالة وتأليف لم يذكر في هذه الإجازة وجميع ما يرويه عن مشايخه مما لم يرد في هذه الإجازة، وكذلك النّصّ على أنّه أجاز لجميع أهل تنبكت وجميع أهل التّكرور ممّن أدرك حياتي أن يرووا عنه هذه الإجازة وجميع ما يجوز له.
6- توصية المُجَاز لهم بملازمة تقوى الله وطاعته وعبادته، واجتناب معاصيه، والتّوبة إلى الله والاستغفار خلف كلّ صلاة.
7- طلب من المجاز لهم إشراكهم له في الدّعاء الصّالح.
لقد صاغ قطب الدّين النّهروالي عناصر هذه المقدّمة بعناية تامـّة؛ حيث صاغها بأسلوب بديع؛ يتألّف من جُمَل متوازنة متناسبة المعاني، تروق أسماع قارئ إجازته، وتستهوي طباعه، فأكثر من السّجع والكنايات والإشارات اللّطيفة، وأورد الأحاديث النّبويّة لتحلية الإجازة بها ولشحن قارئها بالفيض النّبوي.
• برامج المرويّات ( الأحاديث الـمفردة وأسماء الكتب) التي وردت في الإجازة
بعد ديباجة الإجازة أخذ النّهروالي يسرد لنا بعض الأحاديث وبعض أسماء الكتب التي سمح للسّودانيين بروايتها عنه مع أسانيده في نقلها عن مؤلّفيها وأصحابها، وهي على النّحو التّالي:
1- الحديث المسلسلّ بالأوّلية وسند صاحب الإجازة به:
على ما جرت به عادة علماء الحديث من أن يرووا لطالب الإجازة في أوّل ما يلقون إليه شيئًا من الحديث النّبوي؛ ليكون ذلك أوّل ما يطرق سمعه عن شيخه، على وفق هذه العادة ألقى النّهروالي إلى علماء التّكرور حديث الرّحمـة لعبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه-: “الرّاحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السّماء”( ) المـسلسلّ بالأوّلية عن طريق شيخه عبدالحقّ السّنباطي بأسانيده المتّصلة إلى سفيان بن عيينة.
2- حديثان عشاريان وسند صاحب الإجازة بهما:
الحديث الأوّل: هو أنّ النّبي -صلى الله عليه وسلم- لمـّا سمع شعرًا من زُهير صُرَد –رضي الله عنه- يوم حنين أعجبه فقال: ((ما كان لـي ولبني عبدالمـطلّب فهو لكم)). ( )
والحديث الثّاني: هو أنّ عمر بن أبان بن المفضل المـديني ذكر أنّ الصّحابيّ أنسًا بن مالك –رضي الله عنه- أراه كيفيّة الوضوء، إلى أن وصل إلى موضع مسح الأذنين، فأخذ ماءً جديدًا غير الماء الذي مـسح به رأسه ثمّ قال: ((يا غلام، إنّهما من الرّأس، ليس هما من الوجه… هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضّأ)).( )
يروي قطب الدّين النّهروالي هذين الحديثين العشاريّين عن طريق العلاّمة المحدّث عبدالحقّ السّنباطي الذي حدّثه بهما بأسانيده المتّصلة إلى الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطّبراني صاحب المعاجم الثّلاثة، فيكون بين السّنباطي وبين النّبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة أنفس، وتكون عين قطب الدّين النّهروالي حادية عشر عين رأت من رأى النّبي -صلى الله عليه وسلم- وروى عنه.
ثمّ أخذ قطب الدّين النّهروالي يفتخر بأنّ هذين الحديثين العشاريين حازا علوّ السّند في عصره.
كما افتخر بحديث عشاريّ آخر يرويه عن طريق والده علاء الدّين أحمد النّهروالي ووالدته خنزا بنت الشيخ شمس الدين، وعماد الدّين عبدالعزيز بن جمال الدّين العبّاسي الأَفْزَري، وجمال الدين محمد بن نظام الدين محمود الأنصاريّ الخرقانيّ، وزين الدّين علي القرماني الحنفي، وكلّهم عن الشيخ قطب الدين أبي يزيد بن محيي الدين بن نظام الدين محمود الأنصاري الشافعي عن نور الدّين أبي الفتوح الطّاوسي بأسانيده المتّصلة، فيكون فيه بين قطب الدّين النّهروالي وبين النّبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة أنفس فقط، وتكون عينه هي العاشرة؛ وذلك الحديث العشاريّ هو عن أبي عمر عثمان بن خطّاب المغربيّ عن عليّ بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا أعرض الله عن العبد ورّثه الإنكار على أهل الدّيانات))( )، ثمّ ذكر أنّه جاز له أن يفتخر بذلك؛ لأنّ الإمـام ابن الجزري (ت833ه) افتخر قبله بنحو مائة وخمسين سنة في كتابه “النّشر في القراءات العشر”( ) بحديثٍ ساق سنده إلى النّبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبينه عشرة أنفس عدول فقط وعينه هي العاشرة، وكان ذلك السّند في عصره أعلى الأسانيد على الإطلاق لنقل ذلك الحديث النّبوي.
وافتخر قطب الدّين النّهرواليّ بحديث تُساعيّ عن والده علاء الدّين أحمد النّهروالي بأسانيده المتّصلة إلى نور الدّين أبي الفتوح الطّاوسي، يكون فيه بين قطب الدين النّهرواليّ وبين النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- تسعة أنفس فقط، فتكون عينه هي تاسعة عين رأت من رأى النّبي -صلى الله عليه وسلم- وروى عنه، قال: ((ولا أعلم الآن في عصري سندًا أعلى من ذلك))( )؛ وذلك الحديث التّساعي هو عن عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كلمة الحكمة ضالّة المؤمن؛ حيث وجدها فهو أحقّ بها)).( )
3- ” الذّهب الإبريز” وسند صاحب الإجازة به:
يعرف أيضًا بـ”الأربعين المـسلسلة بالأشراف”؛ فهو عبارة عن أربعين حديثًا تتضمَّن حِكمًا مختصرة، ((غالب رواته من أهل البيت النّبويّ الشّريف))( )، يروونه متّصل السّند (والدًا عن والدٍ) إلى عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه-. وقد شرحه صالح بن صديق النّمازي اليمني (ت 975ه) في كتابه (القول الوجيز في شرح سلسلة الإبريز). ( )
يروي النّهروالي هذه السّلسلة عن طريق زين الدّين عبدالحقّ السّنباطي عن الحافظ ابن حجر بأسانيده المتّصلة إلى السّيد حسن بن جعفر.
4- صحيح الإمام البخاريّ وسند صاحب الإجازة به:
يروي قطب الدّين النّهروالي هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ شمس الدّين محمد بن عبدالرّحمن السّخاوي عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ بأسانيده إلى مؤلّفه.
5- صحيح الإمام مسلم وسند صاحب الإجازة به:
يروي صاحب الإجازة هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي عن جماعة يزيد عددها على العشرين بأسانيدهم إلى مؤلّفه.
6- السّنن لأبي داود وسند صاحب الإجازة به:
يروي قطب الدّين النّهروالي هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي عن جماعة كثيرين.
7- الجامع للتّرمذي وسند صاحب الإجازة به:
يروي النّهروالي هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي عن جماعة كثيرين بأسانيدهم إلى مؤلّفه.
8- السّنن الصّغرى للنّسائي وسند صاحب الإجازة به:
يروي صاحب الإجازة هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي عن عبدالواحد بن صدفة الحرّاني وحليمة ابنة شهاب الدّين الإسحاقيّ بأسانيدهما إلى مؤلّفه.
9-السّنن الكبرى للنّسائي أيضًا وسند صاحب الإجازة به:
يروي قطب الدّين النّهروالي هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ عن الحافظ عبدالرّحيم العراقيّ بأسانيده إلى مؤلّفه.
10- السّنن لابن ماجه وسند صاحب الإجازة به:
يروي صاحب الإجازة هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي عن ثلاثة منهم القاضي والمؤرّخ عزّ الدّين ابن الفُرات بأسانيدهم إلى مؤلّفه.
11- الموطأ للإمـام مالك وسند صاحب الإجازة به:
يروي قطب الدّين النّهروالي هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي عن القاضي ابن الفُرات وأبي إسحاق الزّمزي بأسانيدهما إلى مؤلّفه.
12- جامع الأصول لابن الأثير وسند صاحب الإجازة به:
يروي قطب الدّين النّهروالي هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي بأسانيده إلى مؤلّفه.
13- تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرّسول لابن الدَّيْبَع وسند صاحب الإجازة به:
يروي صاحب الإجازة هذا الكتاب عن طريق مؤلّفه وجيه الدّين عبدالرّحمن بن عليّ ابن الدَّيْبَع اليماني مباشرة مكاتبة وبالإجازة العامّة عنه.
14- التّرغيب والتّرهيب للمنذري وسند صاحب الإجازة به:
يروي صاحب الإجازة هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي بأسانيده إلى مؤلّفه.
15- الشّمـائل النّبويّة للتّرمذي وسند صاحب الإجازة به:
يروي النّهروالي هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي بأسانيده إلى مؤلّفه.
16- الشّفا للقاضي عياض اليحصبي، وسند صاحب الإجازة به:
يروي صاحب الإجازة هذا الكتاب عن طريق والده عن الحافظ السّخاوي بأسانيده إلى مؤلّفه.
• لائحة الاستدعاء (أسماء الطّلبة الذين تمّ منح هذه الإجازة لهم):
لقد نصّ قطب الدين النّهروالي في ديباجة هذه الإجازة على الطّلبة الذين كتبها لهم تلبية لرغبتهم، ويمكننا أن نقسّم أولئك الطّلبة إلى ثلاث طوائف:
الطّائفة الأولى: هي الذين حضروا مجلس استدعاء الإجازة من العلاّمة قطب الدّين النّهروالي، وهم:
– الشّيخ عبدالكريم بن محمّد بن عليّ الجناوي.
– وابنه الشّيخ عبدالله بن عبدالكريم.
– والشّيخ عبدالرّحمن بن إبراهيم بن عبدالرّحمن الجناوي.
– وابنه الشّيخ إبراهيم بن عبدالرّحمن.
-والفقيه أحمد بن عمر بن محمد الجنوي.
– والشّيخ أبو بكر بن عمر بن خطّاب الجنوي.
– وهارون بن داود بن دنبا بن أحمد القرشيّ التّشوردونكي.
الطّائفة الثّانية: هي التي لم تحضر مجلس استدعاء الإجازة، ولكن تشفع لهم الحاضرون بغية إدراجهم في قائمة المجاز لهم، وهم: العاقب بن محمود بن عمر بن محمّد أقيت، وأحمد بن الحاج أحمد بن عمر بن محمّد أقيت، ومحمّد بن محمود بن عمر بن محمّد أقيت، ومحمّد بن محمود بغيغ.
الطّائفة الثّالثة: هي التي لم تحضر مجلس استدعاء الإجازة ولم يُتشفع لهم، ولكن تبّرع النّهروالي من تلقاء نفسه بإدراجهم في قائمة المجاز لهم، وهم: جميع أهل تنبكت وبلاد التّكرور ممّن أدرك حياته بصفة عامّة.
المحور الرّابع: مظاهر التّواصل الثّقافي بين الحجاز وبلاد السّودان ومحفّزاته من خلال هذه الإجازة
بغضّ النّظر عن الفكرة الأساسيّة التي قامت عليها هذه الإجازة، وهي حفظ العلوم وتداولها بالرّواية؛ فإنّها تتضمن إشارات تاريخيّة وتنبيهات موضوعيّة يستخلص منها الباحث مدى التّواصل والرّباط الثّقافي التّاريخيّ بين الحجاز وبين بلاد السودان الغربيّ بمظاهره المختلفة منذ عهد قديم، بناء على ذلك سأحاول تحديد تلك المحفزات والمظاهر فيما يلي:
1- محفّزات التّفاعل الثّقافي بين الحجاز وبين بلاد السّودان الغربيّ: انتصبت عدّة محفزات مما أوجد التّربة الخصبة لقيام تواصل ثقافيّ بين بعض علماء الحجاز وبين بلاد السّودان؛ منها:
أ- الرّابطة الطّرقيّة: سعت الممـارسة الصّوفية المشتركة إلى إيجاد مناخ ملائم لقيام تفاعل تاريخيّ ثقافي بين القطرين؛ فمنطقة السّودان كانت في القرن العاشر الهجريّ/ السّادس عشر الميلادي تأخذ بالطّريقة القادريّة، وفي المقابل كان يعيش في منطقة الحجاز عدد كبير من أنصار هذه الطّريقة، ومنهم: قطب الدّين النّهروالي الذي قال محمد عبدالحيّ الكتّاني في ترجمته: ((القادريّ طريقة))( )، ولعلّ لهذا الاتّجاه الصّوفي المشترك اتّجه أهل التّكرور إلى النّهروالي لاستجازته دون غيره من كبار علماء الحجاز آنذاك.
ب- وحدة لغة الثّقافة الإسلامية: إنّ شيوع اللّغة العربيّة في حواضر السّودان الغربيّ في مجال دواوين الدّول والممالك، وفي مجال الدّين، وفي مجال توثيق المعاملات التّجاريّة في القرون الوسطى؛ جعل الفقهاء يتّخذونها لغة الثّقافة، وينفتحون بسببها على المثقّفين الآخرين النّاطقين بها في أطراف أخرى من العالم الإسلامي في تلك الفترة الزّمنيّة، وأقرب مثال لذلك: أنّنا وجدنا إجازة قطب الدّين النّهروالي لأهل التّكرور قد كُتِبَتْ بلغة عربيّة رصينة لا بلغة تركيّة، ولا بلغة سودانيّة محليّة.
ج- بعثات الحجيج إلى الدّيار المقدّسة: دأب مسلمو السّودان الغربيّ في قديم الزّمان على تنظيم رحلات جماعية إلى الحجاز عبر القوافل لأداء مناسك الحجّ وزيارة الرّوضة الشّريفة، غير مكترثين بالصّعاب والمـتاعب، ويظهر أنّ العلماء الذين كانوا ضمن وفود الحجّاج السّودانيّين كانوا يستغلّون فترة إقامتهم بالحجاز للإفادة والاستفادة من علمائها، وخير دليل على ذلك قول النّهروالي في إجازته لأهل التّكرور: ((وقد اجتمع بي في السّابع عشر من رمضان المبارك أحد شهور سنة ثمان وثمانين وتسعمائة جماعة من حجّاج بيت الله الحرام من بلاد التّكرور… وطلبوا منّي إجازة هذه الأسانيد العالية والكتب الحديثيّة…)). ( )
2- من أشهر حواضر الثّقافة الإسلاميّة في بلاد السّودان: إنّ النّاظر بتمعن في أنساب الطّلبة السّودانيّين “الجنويّ” و”التّشوردنكي” الآخذين عن قطب الدّين النّهروالي، وكذلك قوله في هذه الإجازة: ((وذكروا لي أنّ في تنبكت علماء كبار يطلبون الحديث الشّريف))( )، يحسّ النّاظر بأنّ كلاّ من جنّي وتنبكت وتشوردنك ببلاد السّودان غدت في عصر قطب الدّين النّهروالي مراكز علميّة تشهد حركة علميّة قوّة، وتهوي إليها أفئدة العلماء وطلاّب العلم من كلّ صوب وحدب، فمنها تخرّج أولئك العلماء الذين استقبلهم قطب الدّين النّهروالي في مكّة وقدّموا إليه استدعاء لإجازته لهم في مرويّاته.
3- فنّ الحديث من أنواع الفنون المتداولة ببلاد السّودان الغربيّ والحجاز: يُعدّ علم الحديث النّبوي من الفنون المعرفيّة التي اهتمّ بتحصيلها طلبة العلم والرّحلة في طلبه في الآفاق مثل الحجاز، واهتمّ العلماء أيضًا بنشرها في مختلف مجلس العلم بالحواضر الثّقافيّة ببلاد السّودان، ويدلّ على ذلك: قول قطب الدّين النّهروالي في الإجازة: ((وذكروا لي أنّ في تنبكت علماء كبارًا يطلبون الحديث الشّريف، ولو حصلت لهم الإجازة بهذه الأسانيد العالية، لفرحوا بذلك، وصاروا سببًا لنشر هذه الأحاديث الشّريفة وهذه الأسانيد العالية في بلاد التّكرور)).( )
4- وحدة برامج الحديث بين الحجاز وبلاد التّكرور: يلاحظ القارئ السّوداني أنّ المرويّات الحديثيّة التي وردت في إجازة النّهروالي لأهل التّكرور هي نفس كتب الحديث التي يتداولها العلماء السّودانيّون –في الغالب- في مجالس علمهم في عصر قطب الدّين النّهروالي وبعده، وهي: صحيح البخاريّ، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وجامع التّرمذي، والسّنن الصّغرى والسّنن الكبرى كلاهما للنّسائي، وسنن ابن ماجه، وموطأ الإمام مالك، وجامع الأصول لابن الأثير، وتيسير الوصول إلى جامع الأصول لابن الدّيبع، والتّرغيب والتّرهيب للمنذري.
ويضاف إلى هذه الكتب الحديثيّة كتابان لم يرد لهما ذِكْر في هذه الإجازة هما: الجامع الصّغير، والمعجزات الكبرى كلاهما للسّيوطي (ت911ه).
5- وحدة مناهج تحمل المرويّات: إنّ النّاظر في هذه الإجازة وكذلك في عدد من إجازات السّودانيين المتقدّمين مثل إجازة العلاّمة أحمد بابا التّنبكتيّ لبعض المغاربة يلاحظ وجود ترابط ووحدة بين طرق تحمّل الكتب الحديثيّة فيها كقولهم: “أمّا صحيح مسلم فحدّثني به…”، و”أمّا صحيح البخاري فأخبرني مكاتبةً…”، ونحوهما، ولعلّ منشأ هذه الوحدة في المناهج يرجع إلى شدّة تأثّر السّودانيين بالحجازيين وبالمشارقة في درس الحديث النّبوي؛ وذلك نظرًا إلى سبق الحجازيين والمشارقة قبلهم في مجال الحضارة العلمـيّة، ولكنّ ذلك التّأثر لم يكن قوامه التّقليد الأعمى، وإنّما كانت له خصوصيّاته التي تميّز بها.
الخاتمة
لقد أبرزت هذه الدّراسة أنّ رحلة الإجازات والفهارس كانت مظهرًا من مظاهر التّواصل الثّقافي بين الحجاز وبين بلاد السّودان الغربيّ، وأنّها ساعدت على تنشيط الحركة العلميّة فيهما، وناقشت الدّراسة إجازة قطب الدّين النّهروالي لأهل التّكرور بأبعادها ومعطياتها المختلفة كنموذج حيّ لذلك التّواصل الثّقافي.
أوّلاً: نتائج البحث
كان من أهمّ النّتائج التي توصّلت إليه هذه الدّراسة:
1- إنّ العلاقات العربية السّودانية ليست وليدة العصر الحديث، بل تمتدّ جذورها –حسب بعض الرّوايات التّاريخيّة- إلى القرن الأوّل الهجري/السّابع الميلادي.
2- انتصبت عدّة محفزات مما أوجد التّربة الخصبة لقيام تواصل ثقافيّ تاريخيّ بين علماء الحجاز وبين بلاد السّودان؛ منها: الرّابطة الصّوفية، ووحدة لغة الثّقافة الإسلامية، وبعثات الحجيج إلى الدّيار المقدّسة.
3- لقد حرص عدد من علماء بلاد السّودان الغربيّ والحجاز على تحصيل الإجازات العلميّة والفهارس من بعض أساطين العلم، وبذلك انتقلت الإجازات والفهارس إلى هاتين الـمنطقتين.
4- تُعدّ إجازة قطب الدّين النّهروالي صورةً واضحةً من صور عناية العلماء الأفارقة بالإسناد، ومثالاً جليًّا على اهتمامهم به.
5- يُستنتَج من خلال نصّ إجازة قطب الدّين النّهروالي لأهل التّكرور ما يلي: أنّ فنّ الحديث من أنواع الفنون المتداولة ببلاد السّودان والحجاز، ووحدة برامج الحديث ومناهج تحمّلها بين الحجاز وبلاد التّكرور، وأنّ من أشهر حواضر الثّقافة الإسلاميّة في بلاد السّودان في زمن النهروالي: تنبكت وجنّي وتشوردنك.
ثانيًا: توصيات البحث
امتدادًا لتاريخ الصّلات الثّقافية المشتركة بين القطرين، وتطلُّعًا إلى المستقبل المنشود من خلال تحقيق المصالح المشتركة، وتبادل الخبرات التي تنعم بنتاجها الشّعوب السّودانية والحجازيّة معًا، يناشد الباحث أصحاب القرار ورجال السّياسة الحرصَ والاهتمام باستمرارية مظاهر تلك الوحدة الثّقافية، ومنحها دفعًا جديدًا وقويًّا إلى الأمام.